قراءة في قصيدة " ليس لي نافذة " للدكتور الشاعر إبراهيم جواد / كتب فارس بن جدو

قراءة في قصيدة " ليس لي نافذة " للدكتور الشاعر إبراهيم جواد سيد الكلمة اليعربية و أمير الفصحاء .

نص القصيدة :
ليس لي نافذة
أفلَ النجمُ حسيراً
وعن العرش هوى المجدُ .. انتحَبْ
مُطرقَ الرأس يواري جبهةً
عن شاطئيها سقط العزُّ كسيراً 
وقناديلُ الغضبْ
* * *

خجلَ البدرُ .. توارى وانسحبْ
ذابَ وقْدُ الجمرِ في كانونِ عينيهِ 
فسالت غيمةٌ
سوداءُ سلَّت سيف قهرٍ
فانطوى ريفُ اللّهبْ
* * *
كيف بـي 
أُغمِضُ عيني عن قذاها
عن أعاصيرَ تعاوتْ في ضِياها
حرَّمتْ "معشوقتي" عني رُباها
حجزتْ عني هواها .. وسماها
ليس لي نافذةٌ
كيما أرى من دَفّتيها كوكباً
قد شعَّ في رحْبِ فِناها .. وانتصبْ
وعلاها فارساً 
يحملُ سيفاً من ذهبْ
* * *
ما لعيني لا ترى؟!
ما لأذنـي؟ ما دهاها؟!
صممٌ شلَّ قواها .. واستباها
ولساني ..
ما اعتراه فانصلبْ؟!
* * *
هذه الأنوار هلَّتْ بارقاتِ
فمتى أصحو على وقع ِ خُطاها
وأراها أمنياتـي؟
ويدبُّ العِطرُ في نُسغي
وتهتزُّ على لحنِ خريرِ الماءِ 
أفنانُ حياتي ؟
وعناقيدُ العنبْ
* * *
قد صحا الموتُ 
فهل من سُكرهمْ 
يصحو العربْ ؟

القراءة :
١ ) يتأسس حضور النص بنيوياً على أسلوبية الإنزياح و جمالية التخييل ، حيث تستندُ الصورة الشعرية فيه على آلياتٍ وظيفيةٍ تعمل على كسر أفق التوقع و إثارة الوجدان و إعمال الفكر لدى القارئ، ذلك أن تراكم الانحرافات إزاء المعيار القاعدي - على غرار الإستعارات المتواترة - من شأنه أن يقويَّ الشحنات الدلالية و التداولية التي تخدم بلاغة الحجاج و الإقناع ، و الناظر لأسلوبية النص على سبيل التأمل ؛ يجده نسيجا تخيُّلياً يحاكي لواعج الواقع المرِّ، فقد صور الشاعرُ المجدَ نجماً من الأعلى بعد أن كان بريقه يشدُّ أنظار الأعيان ، و صوَّر العز على أنه شيخٌ يدبُّ دبيب النمل فسقط و لم ينهض بعد إذ ذاك ...و صوَّر البدرَ خجولاً من واقع العرب ، فلا هوَ اكتملَ و أنارَ الدروب و لا هو انمحى فساد الظلام، إنما بقي القوم عجاجةً في منزلةٍ ما بين المنزلتين ، بخلاف ما قال الحارث بن سعيد أبوفراس الحمداني :
و نحن أناسٌ لا توسُّط عندنا 
لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ
...
بينَ مجدِ السلفِ و خيبةِ الخلف ، يبقى البدر خجولا من منزلته بين الكمال و النقصان ، ذلك هو حال الناصِّ حينما يطلُّ على الأنا الجمعي من مرآة ذاته ، و يعبر عن مسار النكبةِ في بوتقة الإنطواء ، و على الرغم من هذه السوداوية تجاه المحيط ؛ إلا أنَّ فضاء الانفتاح على أبجدية الانتصار واردٌ ماثلٌ ، فمتى تُساسُ به السواعدُ و النُّحور ؟، في وقتٍ صارَ الموتُ يختالُ مسرعاً في الساحات و الباحات و على التلال و الجبال ، صحا الموتُ و أيقظتهُ حرولُ العدا فهل سيصحو المضيمُ من سويداء الضيم .
٢) يقوم التشكيل الإيقاعي للنصِّ على انسياب تفعيلة الرملِ انسياباً تلقائيا كالجدول ، مما يخلق تناغما رقيقاً بين الوحدات الصوتية و الدفقات الشعورية التي تصدر عن الذات نتيجةَ رؤيةٍ ذاتية كامنةٍ ، تضمرها النفس في اللاشعور بعد اصطدامها بسلطة الأنا الأعلى ( المجتمع ) و تتسامى إلى فضاء الشعرية بسبب الإنفعال تجاه واقعة قومية معاشةٍ ، و يعبر طول العبارة المترتبة عن توالي النغمات ( فعلاتن - فعلاتن ...) عن طول النفس في انتظار انوار الأمل ، فيما يعبِّرُ السكونُ المتدلي على آفاق الروي المتواتر (بْ ) على حالة السكوت و الصمت غير المبرر تجاه القضايا القومية المصيرية .
٣ ) أفل النجمُ حسيراً ، فهل من سكرهم يصحو العربْ؛ هكذا تتأسس الدلالة العامة للنسيج التشاكلي عبر محور ( بداية / نهاية ) ، و بين ماكان و ما هو عليه الآن ( الماضي و الحاضر ) يبقى الشاعرُ في فلك الحيرة من أمرِ النكبة ؛ هل هي مستمرة ؟ هل ستزول ؟ هل سيأتي المخلِّص المزعوم ؟ إلى متى تبقى الذئاب البرية تعدو على شاة البلدة ؟ أم ذئاب البلدة أولى بالدحر ؟ ....كلها أسئلة تنتمي إلى حيز الاستشراف ، يعبر عنها الشاعر بقوله : ليس لي نافذة ، بمعني ليس لي أن أعرف اليقين ما دامت الذئاب تلبس جلود الظأن و تأكل الشاه و تندب مع الراعي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق