قنبلة قصة بقلم الأديبة / الدكتورة عبير خالد يحيي

قنبلة

ربما سابقت الفجر لأخرج مشتاقة أتجول في طرقات ذكرياتي المظللة بأشجار الكرم والجمال ، مدينتي الوادعة التي تغفو على لجة بحر يلامس خدها بلمسات حانية متوالية لا تكاد لمسة تنتهي حتي تأتي الثانية تمسح شعرها الأشقر وتنحسر عنه مبللة إياه ، تتوضأ مدينتي من مائه الطهور وتتهيأ لصلاة الفجر مسبحة الخالق شاكرة فضله على ما وهبها من خير وجمال وسكينة ، وشيء في القلب يألم ، تدعو الله وتستفيض بدعائها أن يلطف بأبنائها من غاب منهم ومن حضر ،ومن مات منهم ومن ولد ،


أتممت وإياها صلاة الفجر وخرجت أتحسس أرجاءها وأنحاءها، وحدي أريد لقياها لأخبرها وتخبرني قبل أن يزدحم فضائي بالسلامات من الأهل والأصدقاء، ركبت سيارتي التي ضمتني بشوق ولامستها بلهفة ،
(
كيف أنت مهرتي؟ اشتقتك أيتها المطواعة ، خذيني في طرقاتنا الجميلة ، هي انطلقي )
ومضت ، كان الشمس تتمطى ، ما تزال نعسة، أشجار النخيل المنتصبة في منصف الطريق كبرت .. ما أسرع نموها ! أم أن غيابي كان طويلاً ؟! ربما ...
الطريق الذي أعشق ما تزال أشجار الزنزرخت ذات الأزهار البنفسجية تكلله كقوس نصر ، سبحان من خلقها فأبدع ! هذا الطريق يقع وسطاً بين البحر وبين حديقة المدينة العامة ، هذه الحديقة التي رأيت فيها أطفالي يركضون ويلعبون ويضحكون ..... ويكبرون ، كلما مررت أمامها أقرأ الفاتحة على روح والدتي ، لا لا ليست المقبرة ... بل الحديقة التي كانت تحتضن ضحكة أمي وفرحها بأولادنا يلعبون ، 

ركنت السيارة جانباً ودخلتها ، لقد أزالوا كل الأسوار الذي كانت تحيط بها ، وجعلوها مشرّعة بلا أبواب ولا أسوار ، ما أن ولجتها حتى زخمت أنفي رائحتها العطرة التي تمازجت بها عطور كل بنات الأرض من ورود وأزهار ورياحين ..
وصلت إلى ساحتها حيث تنتظم فيها مقاعد كنا نجلس عليها بينما الأطفال يلعبون ،قلت أجلس قليلاً لأعيش ذكريات الأمس ، ولكن الوضع كان مهولاً ...!
المقاعد ليست فارغة ...!

تكدس فوقها أكوام ملتحفة ببطانيات مهترئة، اقتربت أكثر .. فإذا بكومة تتقلّب إلى جانبها الآخر ليقع عنها الغطاء ،وتتكشف عن طفل لا يتجاوز السابعة من عمره ، فتح عينا ً واحدة لينتفض بذعر عندما رآني .. وبدأ بالصراخ ، حاولت تهدأته ، لكن صراخه أيقظ كل الكوَم .. فقاموا كالمسعورين وأنا أحاول أن أبث الأمان في قلوبهم ، أحدهم بكى مترجياً : لا تأخذينا إلى الشرطة أرجوك ، لم نجد مكاناً ننام فيه، كنا ننام تحت سلالم البنايات وعلى أرصفة الشوارع فطاردونا ، نظرت إليهم ، كانوا حوالي عشرة أطفال ، لا تزيد أعمارهم عن ١٠ سنوات ، يقفز اليتم من مآقيهم قفزاً ، أكل الفقر ثيابهم فتهلهلت ، وبصمهم الجوع ببصمات عديدة على كل أعضائهم ، ورأيتهم يتوافدون وكأن كل شجرة في الحديقة ولدت طفلاً ، خلف كل حاجز نباتي انتصب طفل ، تجمهروا حولي لهجتهم غريبة ، ليسوا من أهل مدينتي ، وعندما سألتهم من أين جاؤوا ذكروا أسماء مناطق ساخنة في بلادي ، معظمهم فقد أهله ، ووصل إلى مدينتي برعاية إلهية ، سألتهم كيف يعيشون ، كيف يقتاتون ، كيف يغتسلون ؟.

أجابوني وكأنهم على قول رجل واحد ، نعمل نبيع أكياس مناديل ورقية ، أو علكة ، نمسح زجاج السيارات ، والبعض يعمل كصبية في محلات تجارية ، لكنهم لا ينامون فيها لأن مبيتهم قد يجلب للتاجر المساءلة ...!
تقدّم أصغرهم مني ، وطلب مني أن أنحني قليلا ً ليوشوشني : " أحمد هذا يشرب سجائر ، رأيته يلتقط أعقاب السجائر عن الأرض ويشعلها ، كما أن حاتم هذايسرق".

وهزّ رأسه مؤكداً وكأنه يحذّرني ...
ووقف الباقون ينظرون إليه نظرات توعّد ، كأنهم يعلمون أنهم يفشي أسرارهم وأعمالهم المشينة ، 
وبردّ فعل كأنه الغيرة أخذني أكبرهم وتنحى بي جانباً مبعداً إياي عن الجمهرة : " أستاذة ، أعرف فتياناً أكبر منا يعيشون في المجارير ، أنابيب الصرف الصحي التي تصب عند شاطئ البحر ، يحشّشون ...! "
أعتقد أن كل شعرة في بدني وقفت حال سماع ذلك ...
بعدها صرت أستذكر قول صديق مصري كان يتكلم بحرقة عن أطفال الشوارع في مصر ، كيف أنهم يعيشون كالقمامة ، وكيف تتفشى في أوساطهم المخدرات الرخيصة القاتلة ، ذكر حالات عن أطفال تحت سن السابعة يتناولون ما يسمى (بالكلة)...
والكلة هي مادة لاصقة تلصق بها الأشياء وغالباً الأحذية ، مصنوعة من مواد كيميائية ذات رائحة نفاذة مثل التنر والبنزين ، يمضغها الأطفال أو يشمونها ، يعقب ذلك شعور بالدّوار وإحساس بالنعاس الشديد ، ثمّ نوم كالإغماء ولساعات طويلة جداً....!

وآخرون يسرقون ويشحذون ليشتروا حبوب الهلوسة ، البودرة والحقن ، ومنهم من يشتري أدوية السعال يتناولونها مع عقاقير مسكّنة لتفعل نفس فعل المخدرات ، 
تحدّث عن الأطفال الذين يعملون عمل القوّاد ، يأتون ليدلّوا السياح على بيوت الدعارة لقاء أجر ، كالسماسرة ...!
هذا عدا عن استغلالهم جنسياً ... والقصص في هذا المجال أكثر من أن تُعدّ أو تحصى ...
يا لطف الله ...!
هذه الطبقة من المجتمع السفلي هي عار على الإنسانية ، عار على الحكومات التي تعنى بكبااااااائر القضايا وتنسى هذه القضية الصغيرة ... أطفال الشوارع قنبلة موقوتة ، إن لم يتم إبطال مفعولها
ستنفجر بوقت غير متوقع ..
أخطر بكثير من القنبلة النووية ، 

نتكلم هنا عن نواة مستقبل ، نشأت نشأة فاسدة ، ستكون مستقبلاً منهاراً أخلاقياً واجتماعياً وفكرياً وحتى اقتصادياً ...جيل عاطل عن كل شيء إلا الجريمة ...عالة بل نقمة على مجتمعه ... نحن الآن نحضّر بيئة خصبة للجريمة ..البذور فيها كثيرة ، سقياها النقمة والشقاء وستنتش شوكاً يؤذي كل من يمر به ، لا بل نباتاً طفيلياً يقضي على كل زرع مفيد ...
خرجت من أفكاري مذعورة ... نظرت إلى هؤلاء الأطفال ، رأيت عيونهم مثبتة علي ، وكأنهم غريق ينظر إلى طود نجاة ، رأيت أملاً يلمع في وجوههم ، ورجاءً أن كوني معنا ، هذه الظاهرة ليست أصلاً في بلدي ، بل وليدة ظروف آنية ، الحرب اللعينة التي نجا فيها من مات ، وشقي فيها من بقي ، بمعنى أننا يجب أن نعي أن هؤلاء هم فلذاتنا ، كيف نقبل أن يأويهم الجهل والرذيلة ؟ كيف نقبل أن تكون الكلاب الشاردة أوفر حظ منهم ؟ 

لو كانت بلادنا بوضع طبيعي من المؤكد أننا ما كنا لنرى هذه الظاهرة ، الأيتام في بلادنا كانت تحتضنهم المؤسسات الاجتماعية الحكومية والخاصة ، لكن الوضع الآن غير مسيطر عليه وقد استفحل للأسف ، وهذا من معقبات الحرب الغبية ،إفساد البذرة ومن ثم تدمير الزرع والتربة لأجيال طويلة لاحقة ، 
أما بالنسبة للدول المستقرة نسبياً ، فأمر هؤلاء الأطفال يجب أن يقع على عاتق الحكومات ، بناء مراكز إيواء لهم أهم بكثير من بناء السجون .. هم بحاجة إلى هذه المآوي الآن ، السجون ستأويهم لاحقاً، هم بحاجة إلى مراكز تأهيل ودعم وتعزيز نفسي ، بحاجة إلى العلم والتربية ، نحن بوضعهم الحالي هكذا نساهم في بناء قاعدة جهل عريضة ، ولعل أفضل حل لوضعهم هو استقطابهم في عملية إنتاجية تتناسب مع أعمارهم .. فالعمل علاج للكثير من الآفات الاجتماعية المستشرية في أوساطهم ، الغريب أن الدول المتقدمة وصل فيها الوعي إلى درجة أن حتى السجون هي مراكز ثقافية وإعادة تأهيل وتعزيز ودعم نفسي لتخرج إنساناً سوياً مثقفاً 
إيجابياً مساهماً في تقدم مجتمعه ..

ونحن ما زال بعض أطفالنا جرذان شوارع ...! ينافسون الكلاب والقطط على القمامة ....!
لم أفق من أفكاري تلك إلا على يد الصغير تشد ثوبي ، التفت إليه ، ثم إليهم وقلت ضاحكة : "ما رأيكم بالفول والحمص والمسبحة والفتة وزيت الزيتون والحامض والمخللات والخبز المشروح ....؟ 
هاه موافقون ؟ نفطر معاً ؟ من يطير بسرعة الطير ويحضر الفطور ...؟ "
د. عبير خالد يحيي


شارك الموضوع

شاهد أيضا

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات :

إرسال تعليق