عجوز الحيّ الغربي / قصة قصيرة / بقلم الأديبة / أماني سعد ياسين

عجوز الحيّ الغربي
بقلم الكاتبة د أماني سعد ياسين

اعتاد سكان الحي المكتظ بالسكّان ، بشارعه الضيق جداً ، على رؤية الرجل العجوز اللطيف والمبتسم دائماً بشكلٍ يومي أو شبه يوميّ . لم يكن أحد يعرفه ، أو يعرف له إسماً محدّداً فكان الجيران دائماً ما يطلقون عليه لقب ” عجوز الحيِّ الغربي “نسبةً الى الحي الغربي من المنطقة التي كان فيها في ضاحيةٍ من ضواحي المدينة بشكلٍ شبه مستمر .


لم يكن من سكّان الحي ، ولا من سكّان المنطقة المحيطة أيضاً ولم يكن أحدٌ من الجيران يعرف من أين يأتي الرجل !.. لم يكن أحدٌ يعرف عنه شيئاً إلَّا أنَّه رجلٌ مسنٌّ لطيفٌ جداً ، دائم الإبتسامة ، لا تفارق البسمة شفتيه أبداً .

كان جميع سكان الحيّ بمن فيهم الأطفال الصِّغار يحبّونه حباً جمّاً بسبب أخلاقه الحميدة وطبيعته الطيِّبة . كان يعمل بشكلٍ مجدّ ومستمر وبصبرٍ لا مثيل له ولساعاتٍ طوال على فرز مستوعبات النفايات الموجودة في الشارع ينتقي منها وبشكلٍ مرتَّب القناني المصنوعة من البلاستيك وكذلك الكراتين يضع كلٌّ منها على حِدَة بشكلٍ مرتّبٍ ونظيف ليقوم بتعبئتها فيما بعد في سيّارته الصغيرة الزرقاء القديمة الطراز ليقوم ببيعها والإستفادة منها بعد إعادة تدوريها ؛ و” إعادة التدوير ” هي عملية مهمة جداً تقوم بها مؤسّسات مختصّة في الدول المتطوِّرة بهدف الإستفادة القصوى من المصادر الموجودة على كوكبنا وبالتالي الحدّ من آثارِ ازديادها السلبي على السلامة العامّة . أذكر تماماً أوّل يومٍ شاهدته فيه كم أحسستُ بالضيق عندما رأيته يجري عمليته تلك من إخراج للنفايات وفرزٍ بسبب ما قد يخلِّفه ذلك من أوساخ في الشارع حيث أقيم ، ولكن سرعان ما زال ذلك الضيق والانزعاج بعد مدّة ليخلِّف وراءه راحةً عجيبة عندما كنت أراه يقوم بترتيب وتنظيف المكان حيث كان يعمل بشكلٍ كامل ، وبالعكس كنت أتساءل فيما بيني وبين نفسي عن وضع العجوز وصحّته في حال لم أرَه يوماً . لقد اعتدت رؤيته بشكلٍ دائم كما كلّ سكّان الحيّ حيث أسكن بشعره الأبيض وبوجهه الصغير البشوش المسمرِّ من أشعة الشمس وقد خطّت عليه السنون آثارها إلّا أنّه مع ذلك كان ما زال فيه مسحةً من جمالٍ قديم .

في داخلي لم أعد أعترض أو أتضايق من وجود العجوز في الحيِّ بعدما تأكّدتُ ومع مرور الأيّام أنّه لم يكن ليترك أيّ آثارٍ أو أوساخ في منطقة سكني .

حدث في يومٍ من الأيام أن وجدته وقد أوقف سيّارته الصغيرة المملوءة بقناني البلاستيك التي جمعها من مستوعبات النفايات في وسط الشارع الضيق فيما كان يجمع ما بقي من قناني وعلب . كنت في طريقي للخروج في سيّارتي من الحيّ يرافقني طفلاي الصغيران متوجهةً الى زيارة منزل والدتي . ركض العجوز مسرعاً ما إن رآني يريد أن يفتح لي طريق الخروج من الحيّ إلّا أنَّ سيّارته القديمة لم تكن لتسير . رأيته وقد احتار في أمره وهرَع مسرعاً لكي لا يتسبّب لي بالضيق فلم يجد سبيلاً إلّا أن يحاول أن يحمل صخرةً كبيرةً جداً موضوعةً على جانب الطريق لكي أمرّ بسيّارتي ، وهو ما زال يبتسم ويتمتم عباراتٍ لم أكن أسمع منها شيئاً ولكن من الواضح أنّه كان يسترضيني . صرخ ولدي الصغير الذي لم يكن يتجاوز السابعة من العمر :
يااه ماما ، حرام

وجدت نفسي أوقف محرِّك سيارتي وأنزل سريعاً منها لأساعد العجوز في إزاحة الصخرة الكبيرة ، وانا أبتسم في وجهه وأقول
سلامٌ عليكم ، لا تتضايق يا سيدي الآن نزيحها من الطريق .”
دمعَت عيناي لما رأيت من عظيم لطفه وابتسامته الرائعة التي لم تكن تفارق شفتيه أبداً ، وتمتماته اللطيفة الشكورة .

شكرته بلطف ، وأكملتُ مسيري الى منزل والدتي ، وأنا أتساءل كم يوجد في هذا العالم الأرضي من أناسٍ فقراء مادياً وفي حاجةٍ مادّيةٍ كبيرة ولكنَّهم في حقيقة الأمر هم من أغنى الناس أخلاقاً وسماحةً ومحبةً ، وتأثيراً في قلوب الناس !..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق