ما أصعب ان يموت الإله / بقلم الكاتب /غسان جبرائيل خبيص

ما أصعب ان يموت الإله

استيقظ أهل القرية على زمامير سيارات الشرطة التي كانت تعصف في الشوارع والأزقة.. وبيانات ومناشير كانت تلقى من الطائرة كحمامات السلام التي يطلقها بابا الفاتيكان ليعم السلام في العالم. منشورات وصلت أيدينا بفعل الجاذبية الأرضية كي تعلمنا أن الملك سيزور القرية في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم


فضعت بين طفولتي وشيخوختي التي أعادتني لتلك الحرب التي سجل التاريخ أنها أقصر حرب خاضتها الإنسانية منذ بدأ الخليقة. حرب تشبه الحرب التي يلعبها الأطفال ، والتي عليهم إنهاؤها مع سماع مناداة أهاليهم لهم لأن الليل بدأ يرسل أشعته غير المرئية لتعلن أن موعد النوم قد حان.

أعادتني المنشورات لتلك اللحظة عندما طلبت منا قوات الاحتلال أن نرفع الراية كسحابة بيضاء في فصل الربيع.. فوق أسطح البيوت.. ولن أنسى ذاك المشهد حين قام أحد الجيران برفع حفاضة ابنه غير المغسولة تعبيراً عن اشمئزازه مما يحدث. و قام جار آخر برفع رايته البيضاء والتي كانت أكبر راية في ذلك التاريخ ،ولو أن موسوعة غينيس كانت موجودة حينها، لتم تسجيل أول راية استسلام في تلك الموسوعة.. رفع رايته والتي كانت شرشف سريره المزدوج.. رفعها فوق بيته كخيمة بيضاء كي يسكن فيها ، أو أنه أرادها تكون .. أو ربما لأنه كان يملك حدسا أنبأه بأنه سيصبح لاجئاً يوما ما.. وسيسجل التاريخ له ( لاجئ للمرة الثانية) 

فعادت نفسي لذاتي .. وبدأت اقرأ المنشور ... وقرأته المرة تلو المرة .. ليس لعدم وضوحه، بل لأنه أعادني لأيام الطفولة والقصص الخيالية.." كان يا مكان .. وفي قديم الزمان ملك يتفقد الرعية.. وذكرني كيف أن أهل القرية حولوا قريتهم من قرية عالم ثالث الى قرية متطورة وكل ذلك لإستقبال جلالته.
بغض النظر إن كان التاريخ يعيد ذاته أم أننا لن نتخلص من أساطير الأولين والتي بنت أعشاشها مستوطنة عقولنا وتأبى الرحيل

بدأ أهل القرية الاستعداد لذلك اليوم وكأنه اليوم الأول لبداية خليقة جديدة.. أو كأنه يوم البعث والحساب.. ولما لا يكون.. إنه الملك.. انه المخلص قادم على حصان أبيض أو على فرس بيضاء أو سيارته المكشوف سقفها والبيضاء ... ليس مهما .. المهم أنه يركب شيئا أبيض.. مرتديا بدلته البيضاء.. كما لو أن ملاكا سيزور القرية في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم.

وكما قلت لقد اختلطت المواضيع في رأسي بين الماضي والحاضر.. بين الأسطورة والخيال من جهة وبين الحقيقة والواقع من جهة أخرى.
كان أسبوعا لم أشهد مثله في حياتي.. كان الواجب أن يطلق عليه أسبوع النظافة أو أسبوع المحبة .. أسبوع العطاء.. يا ليت كل حياتنا تكون مثل ذلك الأسبوع. لست أبالغ لو قلت أنه قد تم غسل شوارع القرية وأزقتها بالماء والصابون كما تغسل شوارع روسيا الحمراء . حتى ظننت أنه لربما أخذت روسيا تلك العادة من قريتنا عبر العصور ..من يدري؟! فليس لي أدنى معرفة بمن أخذها أو سرقها ممَن؟ لم أتخيل أن تصل النظافة إلى درجة أنها تعدت الشوارع ودخلت البيوت.. والحق يقال وللزمن والتاريخ أن النظافة دخلت القلوب أيضا. وكان سكان القرية على أهبة الاستعداد فيما لو أن الملك قرر أن يزور أحدهم في بيته كما فعل المسيح عندما زار زكا العشار في بيته والتي كانت مفاجئة لزكا لانه كان مكروها من أهل قريته لجمعه الضرائب. لم أتخيل أن تصل النظافة إلى حد قيام الأمهات بتحميم أطفالهن وذلك بعد ان تم التنسيق فيما بينهن كي تكفي المياه الجميع للأمور الحياتيه.

كل ذلك انعكس على سلوك الأطفال اليومي .., و الذين بدأوا ينظفون ألعابهم .. وكم كان محظوظا من كانت لديه لعبة بلاستيكية لأنه استطاع أن ينظفها.. أما الألعاب القماشية والتي تناقلتها العائلات من جيل إلى جيل..فأنى لها أن تنظف وهي تحمل بداخلها معاناة أجيال وأجيل ، لذا كان القرار أن يتم إخفاؤها داخل صناديق الأسرار الخشبية .

ليس هذا فحسب ، بل قامت الأمهات بتنظيف القمل من رؤوس أطفالهن تحسبا لمصادفة وضع الملك ليده على رأس أحد الأطفال لتصله البركة دون أن يكون القمل عائق عدم وصولها لرأسه. تلك البركة التي أعطاها الله للملك - هكذا علمونا - الكل بحاجة الملك.. الكل بحاجة لتلك البركة لأننا نؤله ملوكنا.

زينت الشوارع.. ودُهنت أبواب المحلات وبزمن قياسي. و أصبحت القرية أشبه بوالد دزني أو أرض العجائب..! كل شيء جميل.. جذاب .. نظيف .. حتى الأزهار التي في الشوارع غسلت.. و رويت.. والأعلام رفعت.. ورفعت معها المعنويات .. وكم هو جميل أن ترى علم وطنك مرفوعا.. لأنه حقاً يرفع المعنويات والأنفس .

وجاء اليوم المعهود.. جاء وليته لم يأت.. وكيف لا يجيء؟ فقد كان البيان أو المنشور واضحا أن الملك سيأتي بعد أسبوع.. ومهما طالت فترة الانتظار إلا ان يوم اللقاء آتٍ. لقد قام مختار القرية بإختيار كلماته التي اكتسبها من خبرته في المخترة.. اختار الكلمات ليعلن عن وفاة الملك.

نعم مات الملك. نعم مات.. ولماذا لا يموت.. إنه مثلنا بشر.. ابن تسعة.. نعم مات الملك.. مات السلطان.. مات من لا يمكن تخيل موته ، وما أصعب ان يموت الإله.

كانت رسالته واضحة لجميع أهل القرية والتي قال فيها إن ما أظهرتموه من حبكم للوطن وللملك ومن تعاونكم ومساعدتكم لبعضكم البعض إنما يدل على نبلكم واحترامكم وتقديركم.

فإستمرو بالمحبة لبعضكم البعض.. أيقظوا ما في داخلكم، ليس للملك أو السلطان فحسب بل لإنسانيتكم.. لأنفسكم.. لقريتكم.. لوطنكم..

غسان جبرائيل خبيص
18/02/2014



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق