ربما يعود/ قصة قصيرة / للأديب / ياسين الزبيدي

ربما يعود/قصة قصيرة / نصي الفائز بالجائزة الأولى للقصة /جائزة عزيز السيد جاسم للابداع /الدورة الثامنة 2012.جريدة الزمان الدولية. .
.................... ............._ _________
امتشق قلمك ورتب أوراقك فالشعر عابر سبيل، هو ومضة لا تنتظر العيون الكسلى كي ترتشف ألقها ،هو ومضة لا تنتظر أصابع كفيك المترهلة الممتدة إلى القلم والأوراق بفتور. أرق مدادك ورتب اوراقك الواحدة فوق الأخرى كطابوق لتبني مدينتك التي لطالما حلمت بها. ...

اسحب قلمك ودون ارتعاشات الجفون و وجيب القلب ورعشة الجسد فالشعر مسافر لا ينتظر المتكاسلين. بهذه العبارات ودعني وتركني مع أفكاري وشفرات ما قال، تركني لأشياء كثيرة لا ينقصها كي تكتمل إلا وجوده وتراجعه عما نوى من أمر الرحيل
رحل بعيدا حيث لا أعلم، فتح نافذة واشعل شمعة عند زاوية من زواياها ونظر إلى البعيد، قلت له :هل تعود؟؟ ،ردد: لا أعلم، ربما. .
الغرفة تمتلئ بالذكريات وتتضمخ برائحة الماضي، الماضي الذي يعبق بالصدق والجمال ،ثمة ايقونات وصور ولوحات لرسامين ضاعوا في خضم الأحداث المريرة، رسامون لطالما حكت لوحاتهم عن الدموع الصادقة والسواعد الباسلة، ثمة لوحات بائسة تكدست في زاوية من زوايا الغرفة رسمها رسامون مغمورون وهم لا يعلمون لم رسموا كل ذلك الكم الهائل من اللوحات

تركني مع كل ذلك ورحل، ترك لي قلما واوراقا، قال لي: لتكن سلوتك في غيابي، دون كل ما يعتمل وخطر بخيالك، دون ما يعتمل في ضميرك اليقظ، المتذبذب أحيانا. دون زقزقات العصافير، ونوح الحمائم وبكاء الأمهات، تحدث عن الآباء الكادحين وعن المشردين في أوطانهم وعن الوطن السليب المستباح.
أشار إلى الشمعة وقال: اشعلها عندما تحتاجها ستجد الكثير منها من انصاف الشموع التي أضأناها في الليالي السالفة، ستجدها هناك خلف الباب أو فوق رفوف الكتب التي قرأنها. .
الشمعة ذاتها أضعها عند النافذة التي لم تفتح منذ أن أغلقها هو ورحل، شمعة أضعها عند دكة النافذة هادية للآتين بعد غياب، أضعها كي تكون فنارا يهدي التائهين فليس باستطاعتي أن امتلك فنارا وكذلك لا امتلك سفينة أبحر بها مع العائدين احتفاء بهم جل ما املكه حفنة من عيدان القصب اسطرها الواحدة جنب الأخرى لتكون بمثابة قارب يمخر بنا انا والعائدين في نهر جميل، نهر العودة بعد الفراق المرير. .ناديته في اليقظة والحلم :هل تعود؟ جاءني صدى حروف ضاعت في الفراغ ربما رب..م..أ .

مضى على رحيله مدة ليست بالقصيرة ومازالت الشمعة ذاتها تنتصب عند زاوية النافذة، اضيئها كي تكون سلوة لي، ذات صباح وبعد أن دب اليأس في روحي من أمر عودته شرعت بفتح النافذة تاركا أشعة الشمس تدخل إلى زوايا الغرفة الرطبة وجلست أدون رسالة موجهة إليه وعندما وصلت إلى نهايتها تذكرت انه رحل دون أن يترك لي عنوانا يمكنني من مراسلته عندما يأخذني الحنين إليه. مزقت الورقة وبدأت أتصفح كتابا من تلك الكتب التي تغفو على أحد الرفوف فأخذني ذلك الكتاب إلى عوالم ساحرة ،غريبة طالما تمنيت أن أكون ضمن تفاصيلها وفي خضم تلك العوالم عادت لي ذكرى ذلك الراحل نحو المجهول، ذلك الذي أشعل لي نصف شمعة وترك لي حزمة أوراق وبعض أوراق وجملة وصايا هي بمثابة دستور التزم كثيرا ببنوده الرائعة. تذكرت انه ترك لي ورقة صغيرة ضمنها قصيدة كنا قد نقلناها من ديوان شعري اعدنا قراءته مرات عديدة ،اتجهت صوب الخزانة الصدئة وبدأت ابحث عن تلك الورقة بين أشياء كثيرة وبدأت بقراءتها وسرحت بعيدا....

وجدت أن ثمة كلمات هي بمثابة الذكرى قد كتبت تحت أبيات تلك القصيدة في زاوية من زوايا الورقة (ذكرى انا وهو ،في يوم ممطر ،وتلك القصيدة التي تحكي عن غربتنا وعن غربة الآخرين )..
تلك هي الجملة التي نقشها قلمه لتكون بمثابة ذكرى، وجدت أن الخط الذي نقشت به تلك الكلمات يشبه إلى حد كبير خطي الذي اكتب به عن لوعتي وألمي ،وبدأت الدهشة تغتالني، توقفت عن القراءة وطرحت على نفسي سؤالا بحجم دهشتي عن ذلك التشابه بين خطينا، كان سؤالي هو :هل أنا حقا انا؟؟؟! هل ما زلت أحيا؟ !وتلمست جسدي كي أتأكد من وجودي وطرحت على نفسي معادلة رياضية بسيطة كي اتأكد فعلا بأني ما أزال امتلك عقلا صافيا. .بدأت أتساءل :هل ما زلت بذات الطيبة التي تحليت بها؟! هل ماتزال مبادئي التي كثيرا ما دافعت عنها هي ذاتها في القوة والصلابة؟ !

خلف الغرفة التي تضمني ثمة ثمة جدول نمت على ضفته شجيرة عنب مدت اغصانها فوق سطح الغرفة، عمر تلك الشجيرة بعدد السنين التي غاب فيها عني ذلك الراحل ،أعوام مرت دون أن اتنسم عبير أخباره، أتذكر إلى الآن كيف رمى ببذور العنب الذي تقاسمنا قضم حبات عنقوده ذلك اليوم، أخذ البذور وحفر حفرة ثم أودع فيها تلك البذور، رمم تلك الحفرة ثم سكب فوقها قليلا من الماء وقال لي: إياك أن تهملها، امنحها الماء والحنان واتركها تحتفل بالشمس ،إنها البذور التي ستمنحك الكثير من العناقيد والفيء، قال ذلك وقد ذرف دمعتين سالتا على خديه

الشجرة التي زرع هو بذورها اضحت محطة لاستقبال العصافير وطيور الحباري وطيور الدوح، كانت العصافير بزقزقتها والحمائم بهديلها سلوة لي ،بدأت استشعر وحشة المكان وأخذ القلق يدب إلى روحي والتعب ينتشر في كل مفاصلي وأخذت أتساءل: هل حقا أن ثمة شخص ما قد غادر هذه الغرفة إلى حيث لا أعلم؟ !!
القضية بدأت تتبلور ويتسع مداها وبدأ الشك يسورها ولتدخل نفق الغموض والغرابة.
هل ثمة من كان يشاركني تفاصيل يومياتي آنذاك .؟!

أمام هذه التساؤلات الغريبة، المخيفة و التي أخشى أن تقودني إلى الجنون وجدتني أمام جيوش النعاس التي بدأت تطاردني لتلقي براسي على الوسادة.
كنا فيما مضى نصطاد الطيور فنتخذ من ريشها وسادة نلقي برؤوسنا عليها، رؤوسنا المثقلة بالهموم والتساؤلات أما عظام العصافير فكنا وعلى سبيل الدعابة نقيم لها قداسا مهيبا ثم نودعها في حفرة كنا نعتني كثيرا بهندستها وكأنها قبور آميين. .

ذات مساء يمت وجهي شطر مقبرة العصافير، حفر تنام في رحم ظلامها عظام العصافير التي كنا نلقي بها بعد أن ننتزع لحمها لنأكله مشويا، مملحا، اقتربت من آخر حفرة كنا حفرناها لآخر عصفور ذبحناه، بدأت أحفر وعلى عمق شبرين كانت العظام هناك ترقد بسلام، يا الهي فالأمر حقيقة وحقا أن أحدهم كان يشاركني حفل اصطياد العصافير وذبحها ومن ثم إيداع عظامها ظلام تلك الحفر، حقا أن أحدهم كان يشاركني تلك المهاترات وذلك النزق الجميل......
اجننت؟ !
تساءلت: هل يمكن للضمير أن يتجسد بشرا من لحم ودم؟!وهو الذي طالما عرفناه مستترا ينادينا من بعيد ويشير إلينا بالرمز والايحاء، هل يمكن للأفكار أن تستحيل جسدا ناطقا؟ ! هل يمكن للانا أن تحاورني وتستفزني لتجعلني على حافة الجنون؟!
هل يمكن لإنساني الرائع أن يزمع الرحيل إلى حيث المجهول؟! لاعنا ذلك الجسد تاركا اياه مرتعا للتفاهات وديدان اللاجدوى. ..

عدت إلى غرفتي وجلست على كرسي الهزاز فأعطتني حركته شعورا باللذة والاسترخاء ثم ما لبث أن وقفت وامتدت يدي لمزلاج النافذة ،ادرته بعنف فلفحتني نسمات باردة، تنفست بعمق فأحسست بالحرية، نظرت للبعيد حاولت أن أجد أثرا لخطواته لم أجد غير الرمال، نظرت إلى قرص الشمس الآيل للأفول علني أجد صورته هناك بيد أنه لم يكن هناك غير خيوط واهن لشمس تصارع الليل الآتي لا محال. .

أحاول أن أثبت حقيقة ما كان يحدث، هل هو حقيقة ولكن عبثا كانت محاولاتي فقد تيقنت. إن ثمة حوارا فلسفيا دار بيني وبين الذات، بين جملة مبادئ وجسد خاو من الروح، تيقنت أن ثمة إنسانا ممتلئا بالحكمة والوقار، إنسان يحمل عبق المبادي وعبير القيم قد غادرني بعد أن كان يحيا داخل ذلك الجسد الخاوي، الجسد المفعم بالنتانة والقذارة

عندئذ اطرقت وضحكت في سري وعدت لأوصد من جديد تلك النافذة وأطفئ بريق تلك الشمعة فليس باستطاعتها بعد الآن أن تنير دياجير الظلمة التي تغلفني.
في تلك اللحظة ذوت أوراق شجرة العنب ونبض ماء جدولها وعصفت الريح وعوت في البعيد قطعان الذئاب .....تمت


شارك الموضوع

شاهد أيضا

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات :

إرسال تعليق