كلكامش القاسمي بين الملحمة والأسطورة / كتب ناظم ناصر القريشي


عندما يستيقظ الزمن في القصيدة.. كلكامش القاسمي بين الملحمة والأسطورة
ناظم ناصر القريشي
كأن الزمن يستيقظ في القصيدة فيحضر ببهائه و سطوعه الأبدي ويتدفق خلال الكلمات , حتى الأشياء المهجورة والمنسية تولد من جديد, هنا حيث تتحد ذاكرة الزمن و الأشياء و الكلمات , ليحضر كلكامش ويكون هو ذاته عنوانا لخلود الزمن

وهنا يجب أن نميز بين كلكامش الملحمة أو الأسطورة البحث عن الخلود وبين كلكامش الحلم الذي يراود الشاعرة على اعتبارها الباحثة عن الحياة والخلود من خلال الكلمات والقصيدة وهذا الحلم يراود جميع الشعراء والكتاب , وهذا ما سعت إليه الشاعرة في خلق نص شعري يعتمد على الأشياء الحسية والمرئية و انتقاها للعبارات بتأن لتطوي المعاني لقد جعلت الشاعرة من الملك السومري عنواناً لقصيدتها التي حولتها بالتماهي أحيانا و التناص أحيانا أخرى مع ملحمته الشهير الى ملحمة خاص بها و جعلت منها تجسيدا ميتافيزيقا و شكلا من أشكال الانطولوجيا التي تنبض بالحياة و أكسبتها دلالتها و رمزيتها من خلال توظيف قدرات خيالها الابداعي والبعد الحواري في النص الذي تجاوزا التناص وطريقة استلهامها لجمالية الابداع اللفظي في الحوار ,لذا نجد ان بنية النص ليست منغلقة بال مفتوحة على التأويل المنبعث من دلالات الرمز الذي أوجده فكر الشاعرة وحملته وجدانيتها و روحانيتها وجعلته كشمس المعاني الذهبية التي تشرق من خلف الغيوم الفضية على فضاء الأسئلة فهي تستدرج الملحمة من انتظام تفاصيل الحياة في مشهدها اليومي وتستدرجنا معها كمتلقين ومن ثمة تنشئ علاقة غير مرئية تجعل المتلقي جزاء أساسي من القصيدة وهذا ما يميز الشاعرة , ليبدأ ذات السؤال الوجودي الذي ينبض بالقلق الدائم
من أين والى أين ومسافة الحياة الموجودة بينهما المليئة بالأفكار والبحث عن الكمال حتى ولو بقصيدة تحقق إنسانية الأنسان بشكلها الأفضل وتدعوها للاستمرار في الحياة , في عالم بدأ يفقد القيم و المعنى , لذا تستحضر جلجامش لتقف بين يديه ليستفيق ذات السؤال
بين يديك جلجامش
أفاق السؤال العتيدُ
المعتقِ بالدماءِ وبالقصيد
الرمز حرٌ يا قديم
الرمز حرٌ كالصباح
هنا حيث الرمز حر يستفيق كل صباح منذ القدم معتق بهذا القلق بالدماء والقصيد وهذا ما تود ان تشير له الشاعرة و نؤكده نحن بأن تاريخ الشعر هو تاريخ الأنسان و صراعه مع الزمن وهذا هو جوهر الخلق الشعري والذي بدأ تدوينه مع بداية اكتشاف الكتابة حيث :
تبدأ رحلة الإغواء
تحتفل النجوم ،
ترقص للخصوبة
للنماء ، وللموت المؤجّل
في هذه القصيدة تنقل لنا الشاعرة ، شعورها اتجاه الزمن ، هذا الشعور الذي يخالطه الألم الشفيف الذي يدعو إلى التأمل والتفكير في حياة متجاوزا الألم النفسي والحسي .
إذ أن البحث عن الخلود يبدأ من خلال الكلمات , فتتناسل الصور بين ضفتي الدهشة وما يثيره بناؤها التخيلي في ظل القلق الوجودي من مشاعر , هذا القلق الذي لازال قديما ليرتسم الزمن بعد غيابه الطويل و لتبزغ الأماني من عتمة الأسئلة المضطربة , فلعل القصيدة تكون أنكيدو , ولعل القصيدة تكون عشتار
سبعة أيام تكفي لأخلد
للشعر يا جلجامش
عل الشعر يقتلني ببطء
ولا يُبقِ لي رسمًا ولا اسمًا
علّ الشعر يكون أنكيدو ..
أو يكون عشتارًا .
او يكون سؤالا بحجم الكون
ان اتساع أفق القصيدة لتصبح سؤالا بحجم الكون يدلل على هذه الشعور الإنساني لدى الشاعرة، ويتجلى هذا الشعور بالإبداع في تدوين الكلمات في القصيدة , وانتقالها من الخاص الى العام
,
فالتناص مع ملحمة كلكامش حتى و لو بالفكرة باستحضار ذات البطل في الملحمة , و التلميح بهذا الاتجاه يجعلنا نستقرأ فكر الشاعرة ومقاربتها للماضي بالحاضر وتشابهما , ولذا نكون أحوج ما نكون لظهور كلكامش من جديد
ماذا سـنخسر لو أفقنا
ذات يوم دون جسد
وحلم ؟
هل يسقط المعنى
وينسلخ عن الرمز اعتباره
بهذا التساؤل القلق الذي يعبر عن الجدلية الدائمة حول مصير الإنسان الذي طالما حاول الإنسان سبر أغواره العميقة ,تكون الشاعرة قد هيأتنا لسبر أغوار المعنى أو الرؤيا أو الحالة الشعورية التي يحملها النص ما ترمي اليه من معنى الذي تحدده الكلمات بدلالاتها وإيقاعاتها ، فإن النص الشعري يبين الخصائص الشعرية للشاعرة أسماء ومغامرتها الأبداعية التي استحضرت فيها كل تجاربها ومرجعياتها المعرفية واللغوية ، فهي روضة الكلمات وطوعتها لتتفاعل مع انفعالاتها وفكرتها وإحساسها بالزمن لتنتج هذا الطيف الواسع المتناغم من المعاني والدلالات الخاضع للتأويل و الإيحاء
لأُعتقِ الرمز عن مداه
والقصيدة عن إيقاعها العالي
هكذا حين جئت
وجدت أمامي المساءَ
و ورائي الغمام ، وقلبُ صغير يداري
قلبا
هكذا حين جئت وجدتك دربًا
يواريَ دربا
وهذا المقطع من القصيدة يذكرنا بما قالته سيدوري الى كلكامش
(
إلى أين تمضي يا جلجامش
وأين تسعى بك قدماك؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها)
لذا تلجئ الى القول
لا الدمع يكفي ، كي أرى أبعد من جراحي
ولا الحزن يكفي – دونما شغف حقيقيٌ
يؤكد أنّ ما في القلب ملكٌ للضياع
وبما ان الشاعر خلق حالما مشغول بتشكيل الحياة باحثا عن الكمال لذا يكون الشعر طريق للحياة كما الفن فالقصيدة هنا عبارة عن رحلة لاكتشاف معنى الوجود ، لغز الحياة و الموت من خلال تحرير المخيلة من قيودها بتفجير طاقة اللاوعي و الأبحار في الضوء مع الكلمات في ذلك الأفق الرحيب حيث نقيس المسافة بين الخلود و الذاكرة
انتظرت طويلاً .. طويلاً
قرأت بعضًأ من الشعر
قست المسافة بين الخلود
والذاكرة
قليل من الشوك يكفي
لأعرف ماذا سيبقى
من لون كفّي
على وجنتيك
قليل من الحزن يكفي
لأدرك أبعاد قلبي
استطاعت الشاعرة أن تخلق من النص قيمة فنية وجمالية ذات رفعة في غايتها و مؤثره في وجدان المتلقي , بحيث نلتمس البعد الانساني وما ينتج عنه من شعور عميق , ونستنتج أن الشاعرة أردت إظهار قدرة الإنسان على تجديد صلته بالحياة عن طريق تجديد ميثاقه مع ذاته ومع منبع روحه , ونكتشف نحن إن الكتابة الشعرية هي إبداع يصدر عن تجربة واعية وموهبة والهام
أيها الذاهبون الصاخبون
على ليلَكِ العيش
المتشبثون بأطراف القصيدة
ماذا سـنفعل
لو سقطت ورده في المدى
وانكسر الياسمين ؟
ومن هذا النداء , نقترب كثيرا من فكر الشاعرة أسماء القاسمي والتي تدرك تماما من خلال وعيها الشعري قدرة كلماتها على الإيحاء وهذه القصيدة دليل على هذا الإدراك فالفكرة تحولت الى قصيدة , والكلمات الى هاجس وحلم ومن خلال معاينة لغة الشاعرة سنجد رهافة في التعبير على مستوى الإيقاع الشعري للكلمات التي تعبر عن جوهر الأشياء و الزمن و العلاقة الصوفية بينهما من ناحية و الجودة الفنية العالية للصياغة التي تعبر تماما عن طبيعة الفكرة عبر تداخل البعدين الواقعي والميتافيزيقي .
جمالياً القصيدة مفعمة بالحياة ، فالشاعرة أسماء القاسمي تتميز بأسلوبها الخاص و المتفرد بإيقاعاته المتناغمة مع الخلق الشعري لصورها المتعاقبة والتي تبدو متخيلة و واقعية في نفس الوقت ومنحها الرؤية الجمالية المكتنزة بالشعر التي تملئ روح النص ثراء روحيا وفكريا . فالقصيدة عبارة عن دفقات جمالية متنوعة فيها الكثير من الفكر الفلسفي والثقافي والعمق والإدراك لمعنى الأشياء و الواقع و الحلم , و الذاكرة و المخيلة التي تكون الوعي الشعري للشاعرة التي تأسر الحياة في قصيدتها المتناسقة الأجزاء , فهي تقترب كثيرا من ملامح أرواحنا و معاناتنا التي هي تجسيد لهذا الصراع الأزلي بين الخير والشر و الوجود والعدم , فقصيدة كلكامش الإبداعية و التي من خلال بناء عناصرها الداخلية، و رؤيا الشاعرة أسماء القاسمي التي أبدعتها تصل الى المقام الملحمة ، لتؤكد روح الشعر بغايته الأسمى، وتتجاوز الدلالة المألوفة للأشياء في استنباط المعان باكتشافها للغة التي تمثل جوهر الشعر وروحه الحقيقية
النص
كلكامش
أسماء القاسمي
البعد عن الخلود ، القرب من الموت
بين يديك جلجامش
أفاق السؤال العتيدُ
المعتقِ بالدماءِ وبالقصيد
الرمز حرٌ يا قديم
الرمز حرٌ كالصباح
تبدأ رحلة الإغواء
تحتفل النجوم ،
ترقص للخصوبة
للنماء ، وللموت المؤجّل
سبعة أيام تكفي لأخلد
للشعر يا جلجامش
عل الشعر يقتلني ببطئ
ولا يُبقِ لي رسمًا ولا اسمًا
علّ الشعر يكون أنكيدو ..
.
أو يكون عشتارًا
او يكون سؤالا بحجم الكون
والموت حرٌ كـ الرماح
ولو تأجّل يا قديم
ماذا سـنخسر لو أفقنا
ذات يوم دون جسد
وحلم ؟
هل يسقط المعنى
وينسلخ عن الرمز اعتباره
حين قال :
أفق من سباتك
واقبض على جمرٍ
تملك الماضي التليد
وحين قلت : أنا البعيد
غاب على مهلٍ ..
يدوّنُ حلمَهُ التالي
خذي وقتي المضيء ، و أطفيئني
لا الدمع يكفي ، كي أرى أبعد من جراحي
ولا الحزن يكفي – دونما شغف حقيقيٌ
يؤكد أنّ ما في القلب ملكٌ للضياع
سأعزف عما كان
من شظف التساؤل
فلا الدمع يكفي ،
ولا الحزن يكفي
والقلب أمات
قالها وهو يرقص
في الظلام مع الغريبة
كان يقول :
احتموا ، شر هذه الريح ،
وراء السحابة
سأعرف أنّ الله قريب جدًا
وأنّ الحب يموت ، قليلاً
في القلب
احتموا بالسحابة
زرقاءُ هذي الأرض
مثل سماءٍ ممّوهة
بنورس في الأفق
وأتذكّر أنني جئت
قبل الموت بلحظةٍ أو لحظتين
لأُعتقِ الرمز عن مداه
والقصيدة عن إيقاعها العالي
هكذا حين جئت
وجدت أمامي المساءَ
وورائي الغمام ، وقلبُ صغير يداري
قلبا
هكذا حين جئت وجدتك دربًا
يواريَ دربا
حين جئت
تثائب ورد
واقترب الياسمين الأبيض
يسكب على راحتيك عطرا
سينزف حظيّ هذا المساء
سـيعزفني في الخطوط
سـيعرف أيّ رائحةٍ
بانتظاريَ
قرب الشطاْن البعيدة
حين جئت
توقفت على شيء من الحزن
أقيس المسافة بين
بحر ونجم ورغيف
وانتظرت الخريف
انتظرت طويلاً .. طويلاً
قرأت بعضًأ من الشعر
قست المسافة بين الخلود
والذاكرة
قليل من الشوك يكفي
لأعرف ماذا سيبقى
من لون كفّي
على وجنتيك
قليل من الحزن يكفي
لأدرك أبعاد قلبي
بحجم السفر البعيد
عن متناول الأيدي والعيون
ولحن قريب ، سيكفي لأعرف
ماذا يدور ببال الخلود
الخلود المريب
والموتِ المترّقب ،
ربّما
شتاء قريب سيكفي
لأعرف أين يمتدّ وجهى
ويكفي لأنفض عن
الجرح فوضى الحواس
وأرهن ، للعابرين ، التماسي
أحفظه في ذاكرتي
أو في الوجوه
خاص او مباح
وأعرف كيف يموت الآخرون
وكيف أعيش قليلا ..
قليلا بما يكفي
لأعرف أنّ اليقين
حقيقي جدا في عينيك
وأعرف أنّي حين كتبت كلامي
وارتفعت بالشعر خطوة للأمام
وانثنى في جواري
الكلام الخفيف رطبًا لينا
يصرخ :
أيها الذاهبون الصاخبون
على ليلَكِ العيش
المتشبثون بأطراف القصيدة
ماذا سـنفعل
لو سقطت ورده في المدى
وانكسر الياسمين ؟
{ (
من ديواني صلاة عشتار ) الصادر عن دار التـــكوين في دمشق 2008

شارك الموضوع

شاهد أيضا

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات :

إرسال تعليق