ألمٌ وأمل / كتب الأديب / محمد منعس العجرمي

ألمٌ وأمل.


عِنْدَما تَتَصافَحُ الأَيْدي وَتَلْتَقي الأَكُفُّ فَتَسْتَحيلُ البُرودَةُ دِفْءً غامِرًا للقُلوبِ المُفْعَمَةِ بالحُبِّ المُعَمَّدِ بِقَداسَةِ الغايَةِ وَنُبْلِ الهَدَفِ وَطَهارَةِ الأَرْواحِ السّابِحَةِ في دُنْيا الغَرامِ والمُتَنَهِّدَةِ في أُفُقِ الإثارَةِ لِأُمَّهاتٍ تَنَفَّسْنَ مَرارَةَ الأَلَمِ وَأَخَواتٍ تَعَلَّقْنَ بِأَهْدابِ الأَمَلِ وَأَطْفالٍ تَرَعْرَعوا في أَحْضانِ الذِّكْرَياتِ الحامِلَةِ للمُعَذَّبينَ والبُؤَساءِ التي ما فَتِئَت سَنابِكُ الطُغْيانِ أَنْ تَدوسَهُم وَتَتَّخِذَ مِنْهُمُ الجُسورَ الموصِلَةَ للثَّراءِ الفاحِشِ القائِمِ على امْتِصاصِ الدِّماءِ الزَّكِيَّةِ المُمْتَزِجَةِ مع 

الرَّياحينِ الفَوّاحَةِ والشَّذا المُعَمِّرِ في رِياضِ الخُلْدِ وَبَساتينِ التَّراحُمِ وَحَدائقِ النّورِ المُنْبَعِثِ مِن بَراءَةِ الأَطْفالِ المُحَلِّقَةِ في آفاقَ عَبِقَةٍ بِياسَمينِ الفَيْحاءِ قَلْبِ العُروبَةِ النّابِضِ. دِماءٌ زَكِيَّةٌ سالَت وما يَزالُ بَعْضِها يسيلُ على ثَرى بِلادِ الشَّآمِ الطّاهِرِ في الجولانِ وَجَنوبِ لُبْنانَ وفي كُلِّ مَوْقِعٍ مِن مَواقِعِ النِّضالِ في هذا العالَمِ الفاني، إنَّها حِكايَةُ صِراعٍ فِكْرِيٍّ وَمادِّيٍّ طَويلٍ مُمْتَدٍّ مُنْذُ بَدْءِ الخَلْقِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، بَيْنَ الظِلامِ والنّورِ، بَيْنَ العِلْمِ والجَهْلِ، بَيْنَ التَّفَرُّدِ والتَّشارُكِ، بَيْنَ الإيمانِ والكُفْرِ، لِتَنْشَأَ الحَضاراتُ مُتَجانِبَةً أو مُتَوارِبَةً، مُتَوازِيَةً أو مُتَعارِضَة ، تَتَلاقَحُ تارَةً بالرَّغْبَةِ وَغالِبًا بالإكراه، فَتَنْشَأَ الأَجِنَّةُ بِمَخاضاتٍ عَسيرَةٍ وَشَواهِدُها صَعْبَةُ المِراسِ وَدَوائرُ طِباعِها مُقْفَلَةٌ، وَيَكادُ الطَّبيبُ يُجَنُّ لتلك العوارِضِ وَيَكادُ يَقولُ اتْرُكوني. فالنَّزْفُ مِن كُلِّ مَكان، 

والجِراحُ جدُّ عَميقَة، ولا يُمْكِنُ لأي طَبيبٍ التَّكَهُّنُ بما سَتُفْضي إليهِ العَمَلِيّاتِ الجِراحِيَّةُ ومهما بَلَغَت مِنَ الدِّقَّةِ أو التَّمَيُّزِ في الأَداءِ، لِنَرى الدِّماءَ الأُرْدُنِيَّةَ والسّورِيَّةَ والعِراقِيَّةَ تَسيلُ على أَسْوارِ القُدْسِ ونابُلْسَ وَجِنينَ وَحَيْفا وَغَزَّةَ وفي كُلِّ بُقْعَةٍ قَدَّسَ الّلَهُ ثَراها في هذا الوَطَنِ المُتَرامي الأَطْرافِ، وَيَموجُ بَحْرُ العَواطِفِ بالعَطاءِ وَتَهيجُ عَواصِفُ التَّحَدّي وَإذا بالأَعاصيرِ تَخْتَطِفُ النّاسَ إلى مَعابِرِ المَنايا وَإذا بالمَقاديرِ تَخْتَصِرُ الشَّرْقَ والغَرْبَ بِقُمْقُمٍ صَغيرٍ عُنْوانُهُ العَوْلَمَةُ لِتَنْطَلِقَ يَدُ المارِدِ السَفّاحِ في كُلِّ مَكانٍ نَظيفٍ على هذه الخارِطَةِ المُرْتَبِكَةِ أَصْلًا بِجَميعِ أَشْكالِ التَّناقُضاتِ على غَيْرِ هُدًى وَتَنْفَلِتُ الخَيْلُ مِنْ 

أَعِنَّتِها، وَأَزيزُ الرَّصاصِ يَمْلَأُ الفَضاءَ الرَّحْبَ العَريضَ بِكُلِّ ما تَحْمِلُهُ المَأْساةُ مِن مَعْنى، فَيَسيلُ الدَّمُ السّورِيُّ على أَرْضِ سورِيَّةَ الطَاهِرَةَ وعلى أَرْضِ لُبْنانَ العَرَبِيَّ جَبَلًا وَسَهْلًا وَساحِلا، وَيَسيلُ الدَّمُ اللبنانِيُّ الزَّكِيُّ على أَرْضِ جَنوبِهِ المُحَرَّرَةِ وعلى أَرْضِ جَنوبِ جَنوبِهِ وعلى أَرْضِ القُنَيْطَرَةِ المُحَرَّرَةِ مِن رِجْسِ الصَّهايِنَةِ الأَوْغادِ والذينَ ما يَزالونَ يُحيكونَ المُآمَراتِ مُسْتَعينينَ بالضُّعَفاءِ مِن أَثْرِياءِ العَرَبِ أَوِ الأَعْرابِ المُسْتَعْرِبَةِ المُتَّخِذينَ مِنَ الإِسْلامِ سِتارًا وَعَباءَةً يَخْتَفونَ تَحْتَها وقد فاحَت مع أنفاسهم رائحَةُ النِفْطِ النَّتِنَةِ إلا أَنَّهُمُ اليَوْمَ انْكَشَفوا وَما عادوا يَسْتَحيونَ مِنَ المُجاهَرَةِ بِخِدْمَةِ أَعْداءِ الأُمََّةِ بِذَرائعَ ما عَدَتْ تَنْطَلي على الطِّفْلِ المُمَهَّدِ. حَتَّى أَنَّ السِّباقَ إلى الشَّجَرَةِ الخَرْساءِ شَجَرَةِ 

الغر دق، صارَ في عُرْفِ مَنِ ارْتَضى لِنَفْسِهِ أن يَرْتَهِنَ لِهذا الدَّوْرِ البائسِ وَيَتَّخِذَ مِنْهُ ضَرْبًا مِن ضُروبِ التَّفاخُرِ بل والتَّضْحِيَةِ بالأَخِ الحَزينِ والأُمِّ الرَّؤومِ الثَّكْلى والأُخْتِ التي صَرَخَت واه مُعْتَصِماهُ، وَكُلُّ ذلك للمُحافَظَةِ على كُرْسِيٍّ مَهْما عَظُمَ فَهُوَ لا مَحالَةَ زائل.

وَيَطيرُ اليَمامُ بَيْنَ الرَّصاصِ والرُّفوفُ الحَزينَةُ تُجابِهُ الغِرْبَانَ والتي أَثارَت أَطْماعَها نُطَفٌ مَذِرَةٌ وَجِيَفٌ قَذِرَةٌ وُجِدَت على سَواحِلَ للذَّهَبِ الأَسْوَدِ في قِفارٍ قاحِلَةٍ لا تَعْرِفُ مَعْنى الحُبِّ إلا مِن خِلالِ الوَرَقِ المُتَعَفِّنِ في أَيْدٍ تَلَطَّخَت بالدِّماءِ المَسْفوحَةِ على سُفوحِ وَقِمَمِ وسُهولِ وَوِدْيانِ وصَحارى بِلادِ الشَآمِ الطَّبيعِيَّةِ الماجِدَة.

وَلَكِنَّ الوِلادَةَ ومهما تَعَسَّرَت فلا بُدَّ مِن أَن تَتِمَّ وفي وَضَحِ النَّهارِ، فالمُقاوَمَةُ صامِدَةٌ على الأَرْضِ صُمودَ الأَرْزِ في جَبَلِ لُبْنانَ وعلى سَواحِلِ الأسْكَنْدَرون، صُمودَ السِنْدِيانِ في الغابِ وَمِصْيافَ وفي كُلِّ مَكانٍ مِن سورِيَّةَ الطَّبيعِيَّةِ، وَراسِخَةٌ رُسوخَ جِبالِ جلعاد وَمُآبَ والشَّراةِ وصَنّينَ وعيبالَ وَجِرْزيمَ وَقاسِيونَ وَحَرْمونَ وَجَبَلَ عَمِلَ وفي كُلِّ جِبالِنا الشُّمِّ شَمالًا وجَنوبًا وعلى امْتِدادِ السِّلْسِلَتَيْنِ الشَّرْقِيَّةِ والغَرْبِيَّةِ، أي من جِبالِ الشَّوْبَكِ جَنوبًا حتى جِبال العَلَوِيّينَ شِمالا، ومن جِبالِ الخَليلِ جَنوبا حتى جِبالِ الشّوفِ شَمالا.

ولا بد للأمل أن يشع نوره من تلك النوافذ للبيوت العتيقة المتجذرةِ في مدننا وقرانا وفي كل مكان يحتكم إلى زمن عبقري كهذه الأزمنة التي نتهمها بأسوأ النعوت والصفات، فإذا بنا نحن الذين نستحق هذه النعوتِ وإذا بنا نحترف القتل والتدمير بالعنف والإرهاب الممض والمقيت حتى ليكاد المرء يخرج من كل لباس للخلق القويم والخط المستقيم والذي ينبغي للإنسانية أن تكون عليه لتدور عجلة هذه الحياة كما ينبغي لها وكيف لا وقد فرضت علينا فهي بنة الخطيئة والخطأ، والخطأُ يُمْكِنُ التَّراجُعُ عنهُ بالاعْتِذارِ، أما الخطيئة فَيمكن إزالتها بالاسْتِغْفارِ وليس بالتَّمادي بالآثامِ بالذنوب والكبائر والفواحش بل بالتسامح والحب ومصافحة الأيدي على اختلاف ألوانها لتنعم البراءةُ بالثوب الطاهر النقي كنقاء الثلج في شتاء بلاد الشآم والمعبر عن ولادة جديدة لحياة مليئة بالأمل والتفاؤل للبشر والشجر والحجر.

إنها الحياة التي ما عرفنا عنها شيء إلا من خلال ما كتب الأقوياء، وهي الحبلى بكل جديد، والمعلقة على كل جِيد، تحملها الأعناق أمانة فإذا بها تخر تحت وزنها وتترنح الأكتاف تحت ثقلها، فتطحن من خف لحمل لوائها، أو من تردد عن خوض غمار صعابها، هي تلهث خلف من يتركها، وتنأى بعيدا عن من يريدها، والخير فيها أن نعيشها وكأنها الخالدة، وأن نهجرها وكأنها البائدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق