شاعر أوقد في روحه رؤيا فكانت قصيدة قراءة في ديوان ( أقول أنا و
أعنيك انت ) للشاعر جبار الكواز
ناظم ناصر القريشي
16\2\2016
ناظم ناصر القريشي
16\2\2016
يقول الناقد فاضل ثامر في كتابه اللغة الثانية (الأشياء داخل نسيج القصيدة ليست مفردات , أنها حقل علاقات توليدية لا متناهية . فهي قد تكون إحالة الى دلالة أو معنى . وهذا التراكم - للأشياء- يوحي بدلالات ضمنية أو صريحة
وهذا ما نجده في ديوان ( أقول أنا و أعنيك انت ) للشاعر جبار الكواز والصادر من دار الفرات للثقافة والأعلام في الحلة ؛ والديوان عبارة عن نص طويل كتب في حالة تجلي و استغراق في الاحتمالات التي تترأى في أفق النص الميتافيزيقي وصولا الى الحلم
أن روح الشعر الخلاقة لدى الشاعر جبار الكواز لا تدعونا الى أن نعرف فقط و أنما لنتأمل فطبيعة التجربة الشعرية لديه تقودنا الى جمالية التشكيل وصياغة العبارات من خلال الانزياح الذي تعمده بقصديه للتعبير عن وعيه الذاتي في تأويل المعنى الشعري والذي يبدأ من عتبة النص
فالعنوان ( أقول أنا و أعنيك انت ) بدلالاته الصوفية يجعلنا ننظر للأخر كأنما نقف أمام مرايا متعاكسة ؛ فنجد أن الروح تتلمس ملامحها لدى الأخر ,أنت , أنا و أنا , أنت وهنا الشاعر يلغي الأنا ليتوحد مع حبيبته ,
يقول الزمخشري في كشافه: ولا فرق بين( لا ) و( لن )، في أن كل واحدة منهما نفيٌ للمستقبل؛ إلا أن في( لن ) تأكيدًا، وتشديدًا، ليس في( لا (, لكن الشاعر هنا لا ينفي المستقبل بل يذهب اليه
في انتظار
من يأتي
ردت أن استبدل ب (لن ) لا
أوقفني قلمي همسا
لا نص لديك
ألا تأتي قريبة بالبعد
هاتفها مستنفر أرقام أحفاده الموتى
وسوادها يلبط في كآبة النهار
ويجعل من الكلمات تحمل معانيها وتحلق في الأفق لتولد من جديد فتضيء مع تجلياته , وهذا ما يميز الشاعر ببعض كلمات ينقلك من عالم الواقع الى عالم الخيال حيث الأحلام تختبئ في طيات الريح او على ضفاف الشواطئ مع الموجات او ربما بأجنحة النوارس او تسري مع الأثير
أوقفني قلمي همسا
لا نص لديك
ألا تأتي قريبة بالبعد
الشاعر هنا رائيا بقدر ما تسامت روحه من الشوق واللهفة والحنين وهو يحاول ان يقيس المسافة بين الروح والجسد فسافر عبر الزمن نحو المستقبل متجاوزا الانتظار وظله الثقيل
القصيدة لا تعالج الأفكار بل الأحساس لدى الذات الإنسانية وما تتفاعل معه فلذا هي لا تتوقف عن الابتكار أو خلق الأفكار تعالج مدركات كينونتها وبحثها الدأب عن الأنا و الآخر و إن شكلت الفكرة هاجساً جماليا من خلال الصورة وشاعريتها وهذا يعود الى المزج بين الواقع والخيال بين الوعي واللاوعي بين البصر البصيرة
وسواد بياضها يلبط في كآبة النهار
حزنها المقيم الحائر في جذع نخلة
تنحني بخوف
وبحة أنينها صدى في عراء النصوص
وحروفها رحلات
من موت مؤجل ب (لا)
ولن تريد أجلا زائفا
النص على شكل دفقات شعرية كالنبض المتصل بمركز الاحساس القلب فالشاعر احكم شكل قصيدته وكثف صورها وحشد معانيها في لمحات الدهشة الخاطفة و جعل التأويل يتمترس خلف ابتكاراتها وأطلقها كروح هائما في الكون او موسيقى برية تمتزج مع طبيعة الألهام وبلوغ الأعالي
انت في خفايا روحك
مازلت تبحث عنها
كن عاقلا أيها المعنى
بين (لا) و (لن)
كن عاقلا
وجمل روحك بانتظار من تأتي ولن تأتي
أذن لدينا نص يتفرد من حيث ظواهره الأسلوبية، وحمولاته الدلالية،يتأرجح بين الصوفية بمعنها العام والتأمل بمعناه المطلق مستفيدا من اللغة وظيفتها البلاغية و كما يقول النفري: « كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» والمسافة هنا بين الرؤية و العبارة هي زمن مطلق
فاذا تسلقنا القصيدة وصولا الى قمتها سنجد ماذا يريد ويعني الشاعر بقوله ( أقول أنا و أعنيك انت ) وللمتلقي أن يستلهم القول بروحه وما تسعة لذلك ؛ فأفق القصيدة أفق روحي يتناغم وينسجم مع ذات الشاعر
روح الشاعر المتنامية عبر النص والتي تحمل كينونتها الأولى وحلمها الأبدي في الخلود فمنذ أن ذهب كلكامش في رحلته للبحث عن عشبة الحياة رحلة روح الشاعر معه في ذلك الأفق الرهيب في البحث عن الخلاص فدون ملحمته و أشعاره الأولى على الطين فسرى فيه نسغ الحياة هذا ما يحاول ان يقوله الشاعر جبار الكواز لنا في نصه الذي يشبه الملحمة يعيدنا للمنابع الأولى التي تشكلت فيها ملامح القصيدة
رغم الحزن العميق والانتظار واللهفة التي يطويها الشوق في انتظار الذي يأتي او ربما الوصول اليه وهذا ما سعى اليه الشاعر نشعر أن في الأفق البعيد للقصيدة تسري او تظهر ظلال تموز اله الخصب لدى البابليين في خط مواز لشيء من الرجاء
الشاعر دون خبراته المعرفية والجمالية واللغوية فهو من الشعراء الذين واكبوا عملية التحديث الشعري العراقي حاملا هاجس الإبداع والاكتشاف و الأبتكار و البحث عن آفاق جديدة للقصيدة، من حيث الرؤية والبناء الفني بلغة شفافة مكتظة بالتكثييف الشعري المعتمدة على الرمز والدلالة مفعمة ببساطة المفردة لها أثرها وتأثيرها العميق , ومما لا شك فيه أن هذه النص يعتبر أنموذجا على ذلك
فهو يثري تجربته في فضائه الشعري ويتمرد على سكون الانتظار الموحش والشائك والحزين فالوقت عبارة عن أقنعة من الضجر والقلق والخوف و كل شيء يرتدي لون الرماد حيث لا حياة ؛ و يتحول بكل قوه الإدراكية الى قصيدة
فانتقاله من عالم الواقع الى عالم القصيدة الافتراضي فبهذا الشاعر يؤكد رفضه أن يكون حياديا أو خارج النص؛ حواراً داخلياً عبر تداخل الأماكن و ألازمنه في تداعي حر للأفكار والصور حيث يصل الشاعر إلى ذروة الحالة الشعرية ؛ فعالم الكواز الشعري يعبر تمام التعبير عن الناضج بين الفكرة والمعنى، بين العام والخاص، بين الماضي والحاضر، ورؤى المستقبل
تدور الشوارع
وهي تنسج محيى الصبايا بللفتات
وحين تستفيق الزوايا
على همسة
يبتدئ الأفق أناشيده
ان حدود النقد تقف عند حافة القصيدة تنظر الى شكلها الخارجي و قد تلمح بعض التناغم في البناء وتركيب الجمل والانزيحات لكن روح القصيدة تبقى في الجانب الأخر حيث الأحساس بالشعر أفضل من تفسيره فالكلمات كما قلنا سابقا تتمرد على معانيها
كيف لي أن اخطف برق عينيها
لأزيل دخان قصائدي
الشاعر يعبر عن لوعته و يعاني من الفقدان فدفاتره من ضباب و قصائده بقايا رماد تشرب نبيذ المطر لعلها تحيا من جديد في عيني حبيبته , حيث حزنها المقيم الحائر في جذع نخلة
عينيها التي تشبه الحزن العميق ذلك الحزن التاريخي الذي مر من زمان ,حزن ميثولوجي لا تتذكره سوى الأساطير والملاحم حزن يقبع في عيون الفرسان المقهورين حيث شمس الأصيل الذاهبة نحو الغياب ترسم ظلالهم بفتور رغم هذيان الريح والزمان
ماكثة في سوادها الأبيض
تحاول أن تكون مشرقة بالظلام
بابتسامة تنث أشرعة من غيوم
يلملم الشاعر شتات روحه أخير و يعيد تشكيل الجمال بالكلمات ، ويرسم لوحته الجميلة فيتحول الى القصيدة
أسائلها
أيكون حسنها ترجمان رؤاي ؟
وسوادها بياض أحزاني ؟
فبعد ان
الغرباء أوقدوا الأرصفة بالخوف
وتقاسموا الرياح في صررهم المثقوبة
والأسماء تغادرنا في الحقائب علنا
وأصبحت الكلمات انحناء سؤال في الدخان ,هي ذاتها
تكتب اسمها بآيات منسية
تخشى الله
حين المسها
وتهوى اللمس لحظة لا المسها
تغني
فتقترب البلابل من شفتيها
لتسطر أخر شروق لغصن الله
و هي تشير لي بأصابع أنوثتها:
تعال
تعا
ا
ا
ا
ل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق