الحبيب الأول / قصة بقلم الأديبة الدكتورة / عبير خالد يحيي

الحبيب الأول

تسقط اليدان على ذراعي الأريكة متهالكة ، في محاولة إسعافية للحؤول دون سقوط كتلة التعب الضخمة أرضاً ، فالوقوع الآن خطر ، لن يشعر بها أحد فالكل نيام بعد ليلة عصيبة قضوها بالمشفى انتهت برجوعهم إلى البيت :" هناك وقت قد يطول ، عودوا بها إلى البيت لترتاح ، الانتظار في البيت أفضل من المبيت في المشفى ".
كان هذا قرار الطبيب المشرف على مراقبتها خلال الشهرين المنصرمين ،
-"
ولكنها نزفت كثيراً دكتور ".


نطقتها أمها بجزع، نظرة الطبيب الصارمة أسكتتها، التفتت إلى أب امتقع وجهه خوفاً ، وإلى زوج لبسته الحيرة حتى بدا كالمشدوه ، "هيا لننفذ أمر الطبيب فهو أدرى ".
عادوا أدراجهم يلفهم صمت غريب ، قطعته بسؤال خرج ضعيفاً من فم استسلم لقدر ظنّه يسبق الموت بقليل :" تخفون عني أمراً ، هل هناك خطر على طفلي ؟".
ترد الأم بسرعة :" لا لا لا ... هذا أمر طبيعي ، فأنت بكريّة والبكريّة معرضة لمثل هذه الأمور وأكثر ، اهدئي واستكيني ".
-"
هذا الطبيب يؤرقني منذ أن راجعته من حوالي شهرين رأيت في عينيه قلق ولد لحظة قام بفحص بطني بالأمواج فوق الصوتية ، أبدى انزعاجاً لأني تأخرت بالزيارة ، لكن أمي ماذا كنت أفعل ؟ هل أنا مقصرة بحق طفلي ، الطبيبة التي أشرفت علي منذ بداية الحمل هي من سافرت فجأة ، هل يعتب علي لأني لم أختره طبيباً مشرفاً منذ البداية ؟."

تربت الأم على كتف ابنتها مهدئة :" لا لا لست مخطئة دعي عنك هذه الهواجس واستريحي ، كل شيء سيكون بخير فقط حاولي أن تستريحي لتكوني قوية وقت الولادة، فطفلك يتشوّق للقياك ".
وأشاحت بوجهها لتداري دموعاً تجمعت في العيون، لتواجه نظرات الأب والزوج وقد كساهم الشحوب حتى ابيضّت الشفاه ...
سكن كل من في البيت..
زارهم النوم .. إلا هي ، قامت متحاملة على نفسها ، تكتم آهات يمكن أن تطلقها عالية من شدة التقلصات الرحمية التي يكاد يتحطم منها الحوض والظهر، قالوا لها هذه ليست تقلصات ولادة ، وعليها أن تتحمّل ، أخذت كتاباً كانت تطالعه في الفترة الأخيرة عن مراحل الولادة ، ثم كيفية العناية بالوليد ، حملته وأخذت تذرع الصالة ذهاباً وإياباً ، فالمشي يسهّل الولادة ، كانت قد أنهت الشهر التاسع منذ أيام ، أخبرها الطبيب أنها في حالة حمل مديد ، وهو يصر على عدم إجراء عملية قيصرية ، لا تدري لماذا.. غريب أمر هذا الطبيب والأغرب أن أهلها لم يشجعوها على مراجعة طبيب غيره ، يقول عن كل شيء:" طبيعي لأنه حملك الأول ".

وصلت إلى فقرة في الكتاب تعرض بعض التشوهات الولادية للأجنة ، ألقت الكتاب على الأريكة وتهاوت عليها متمتمة : " أعوذ بالله ، الحمد لله الذي عافانا ..."
لم تستطع أن تتم الجملة فالانقباض الذي هاجمها في هذه اللحظة كان أكبر بكثير من قدرة احتمالها .. صرخت صرخة أفاقت بعدها لتجد نفسها في غرفة شديدة الإضاءة ووجوه كثيرة تمنع هذا الضوء من الوصول إلى عينيها مباشرة ، رؤوس ترتدي قبعات بيض، ومكممة بكمامات بيضاء أيضاً ، تهمهم بكلمات لا تستطيع التركيز فيها ، رائحة واخزة تعرفها ، وصوت مألوف يكلمها بما يشبه الصراخ ، 
-"
عليك أن تساعديني حتى أساعدك ، أنت الآن في حالة ولادة ".
وكأن جملته هذه أيقظت الوجع المستقر في وسطها فهب ثائراً: آآآآآخ ...
وضعته أخيراً ....!

أحست بكركرة خروجه ... أمتع لحظة مرت بها في حياتها ..!
قطعة لحم زهرية لمحت منه الفخذ ، حمله الطبيب وخرج به مسرعاً وأشار للطاقم الطبي بأن ينهوا العملية ...
صرخت : " أريد أن أراه ، أين طفلي أريد أن أراه ".
أجابتها ممرضة حاولت أن يكون صوتها ثابتاً :" الحمد لله على سلامتك ، سترينه ، فقط الطبيب مع طبيب الأطفال يقومان بفحصه، ينتهي الفحص ونحضره إليك ، ارتاحي ، فقد تعبتِ كثيراً ...!".

أخرجوها من غرفة الولادة ، وصعدوا بها إلى الغرفة المخصصة لها ، قابلتها أمها بعيون باكية :" كنت بطلة ".
"
أمي أصبحت أماً مثلك ، تساوينا ، لكن أين طفلي ؟".
في هذه اللحظة فتح الباب ودخل الطبيب والممرضة ، قلبها سبق عيونها ناظراً إلى الممرضة ، لا تحمل شيئاً ..!
التفتت إلى الطبيب وقد عقد الهلع لسانها : " أين طفلي ؟".
في موقف لا يحسد عليه أجاب :" اهدئي عزيزتي ، لقد تأخرتِ جداً في مراجعتي ، ويبدو أن طبيبتك السابقة لم تكن تستخدم التقنيات الحديثة بالفحص والمتابعة ، عندما راجعتني اكتشفت أمراً كتمته عنك وأخبرته أهلك ، وارتأينا أن ننتظر اكتمال وقت الحمل حتى تلدين ولادة طبيعية ، الجنين كان مصاباً بتشوهات ولادية
بليغة لم تمكنه من تنفس الحياة ..."
بقيت صورة فخذ الطفل مرتسمة في مخيلتها على الرغم من أن الله رزقها بعده بالعديد من الأطفال ...

د . عبير خالد يحيي


شارك الموضوع

شاهد أيضا

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات :

إرسال تعليق