ملاك الفطر السعيد / كتبت الأديبة / نوره حلاب



اهدي هذا النص الى جيل الستيننات ، جيل الزمن الجميل حين كان الحلم مجسدا في يوم العيد ..
الى ابناء مدينتي الميناء ......مدينة الحلم ...

ملاك الفطر السعيد ...
***********************
لسنوات طويلة ظلت امي كلما اوغلت بها الذكريات عميقا ظلت مصرة عل تسمية ذاك العيد باليوم الذي وسوس لي فيه الشيطان الرجيم ..
ولسنوات طويلة كلما تداعى في قلبي الحنين ظللت على قناعتي بان الذي همس في سري حينئذ ليس سوى ملاك الفرح الكريم في عيد الفطر السعيد ...
كنت في السابعة من عمري خيوط الفجر نسيج بساط احلامي السحري ،،، يطير فوق حيّنا ،، الحارات المجاورة والأزقة وصولا لساحة العيد حيث كان يهبط باجنحته ، ملائكته وافراحه ،،، يكلل المشهد بالأبيض والأسود فيغصّ قلبي الغصة تلو الغصة ،،،حزمة غصات يصعقها الشريان بعقدة الحسرات...
لم يكن العيد في بيتنا خفيف الظل ،،، كان ثقيلا ومضجرا بامتياز ،،، للفرح فيه شروط لا يصافحنا الا بالقفازات القطنية البيضاء ..
وكنت دمية امي المتحركة وعيدها وسط اعمامي والعمات ، اخوالي والخالات ، يقطفون من خدودي ورود القبلات فتمتلئ محفظتي بالعيدية من مختلف العملات ....
على اصابع يدي العشرة كنت احصيها ثروة تشتري العيد السعيد من هلاله حتى اكتمال بدره ...اشرقت الفكرة في راسي مبهرة فقررت ...
كالنسيم وسط سرب الحضور في بيتنا ..تسللت وقطعت لأهبط السلالم درجتين ، درجتين وبفركة كعب واحدة صرت في الحارة المجاورة حيث "اميرة" ابنة الجيران زعيمة العيد والمخططات .......
كانت تلقي بالتعليمات ////////
اول شي منروح على المراجيح ..
تاني شي سندويش فلافل من عند" ابو جميل"
ملك الفلافل ...
تالت شي . منحضر فيلم بسينما العلم ////
لعيونك ///////
كان يهتف ابناء الحي وكنت اهتف معهم فادسّ راسي بين الرؤوس وقلبي بين القلوب ،، امضي بخطوات تلتهم الأرصفة والحارات والأزقة وصولا لساحة " الترَب " حيث ملعب العيد السعيد واول ارجوحة تلقفتني باحضان صندوقها الخشبي ..
تمسكت جيدا وسميت بالله ........... " بسم الله " واطلقت قلبي وملاكي الحرس وسط صيحات الرعب ، هتافات الحماسة والأرجوحة التي تعلو وتعلو فيجنّ خافقي ويصفّق حين يغتسل باشعة الشمس ويتعطر بنور الفضاء .......كنا نتارجح دون تعب او ملل من الظهر حتى آذان العصر حين اطلقت عصافير الجوع زقزقتها في بطوننا مستنكرة ...
الجوع يفتك بنا فنسير بصف منضبط خلف الزعيمة الآمرة وهي تقودنا صوب دكان " ابوجميل " "ملك الفلافل " حيث تسمرنا ننتظر آخر الأوامر ..///
اوعى حدا يتحرك من محلو ....رح اشتري السندويشات وارجع ..///
كانت الشهية عند ابو جميل ....مفتوحة على مختلف اللهجات الغريبة ..
لبنان كله من شماله لجنوبه من شرقه لغربه كان يجتمع في العيد حول رغيف الخبز المستدير عند ملك الفلافل ..".ابو جميل "
هكذا كانت اميرتنا تفسر لي الأمر وهي تناولني سندويش الفلافل احاول التهامها كما يفعل كل من حولي واعاني الأمرين ..... كان عرضها يبلغ عرض ساعدي وطولها يساوي طول ذراعي ..
بعد عدة محاولات فاشلة ...... تبرعت اميرة بمساعدتي وقامت بقطع السندويش لنصفين وسالت صلصة الطحينة بغزارة على صدري وتغلغلت في دانتيل فستان العيد المخرم ....لأغرق بعدها في نوبة بكاء هستيرية حين تذكرت امي ومجهودها الجبار في متابعة تصميم وتنفيذ تحفتها الفنية النادرة ...
اخذت اميرة تقرصني في زندي وهي تهددني .. اسمعي /// ان لم تكفي عن البكاء ساعيدك الى البيت واشاهد فيلم السينما دونك .....
وفيلم السينما في ذلك اليوم كان الفانوس السحري في العيد السعيد ...
كان عنوانه " فجر الأسلام " تدور قصته حول عبدة الأوثان واضطهاد المسلمين ،،،، يضعون الصخور على صدورهم او يصبون المياه بعيدا نكاية بعطشهم ويزداد تشنج قلبي ويعلو نشيجي وتعود اميرة لتقرصني من فخدي ..
"
اسكتي يا هبلة شرشحتينا "
كانت تضحك علي وتقول ///
صدقتي ...عن جد صدقتي . كلو تمثيل ،،كلو تمثيل ...ولم اكن اجرؤ على الأعتراف بعطشي الشديد بعد سندويش الفلافل " مع الكبيس والمخلل "
.
عند خروجنا من السينما والغروب في بداية الشروق اخذت ارتجف هلعا حين اتخيل اي قصاص سيحتفل بضحيته في آخر هذا اليوم الطويل ..
عند مشارف حينا كانت زمرة من الرجال تتوزع لحملة التفتيش عني ...
بابا انا هنا .........صرخت من صدر مفجوع وهرعت لأحتمي به اخيرا حين لطمتني صفعة اطارت صوابي وحطت بي مباشرة في حضن امي التي تلقفتني لتشمّني ، تلمّني بين ذراعيها وتضمّني وتغيب عن الوعي .....
دخلت امي في الغيبوبة مرتين في مساء ذلك اليوم ......الأولى لشدة فرحها بعودتي والثانية حين تاملت فستاني واكتشفت صلصة الطحينة المسكوبة بين خروم الدانتيل الزهري...
رحم الله امي ..
ظلت بعدها لسنوات طويلة كلما اوغلت بها الذكريات عميقا ظلت مصرة على تسمية ذاك العيد باليوم الذي وسوس لي فيه الشيطان الرجيم .........ولسنوان طويلة احتفظت بقناعتي ان الذي همس في سري حينئذ .......لم يكن سوى
ملاك الفطر السعيد ..
نوره حلاب / لبنان

شارك الموضوع

شاهد أيضا

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات :

إرسال تعليق