الشاعرة ميادة المبارك ومرجعيتها الشعرية / بقلم الشاعر/ حسين الساعدي

الشاعرة ميادة المبارك 
ومرجعيتها الشعرية
 
بقلم/ حسين الساعدي
يقول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار 1884/1962 "الكتابة المبدعة إمكانية كل امرأة لأنه فعل أنوثة" . وعندما نتناول موضوعة "شاعرية المرأة" من خلال هذه المقولة ، لايمكن أن نلقي القول على عواهنه ونؤسس أحكام شخصية مسبقة أو أنطباعات عما تكتبه المرأة ، فنضعها في موضع المقارنة بين شاعرية الرجل وشاعريتها . وقد أثيرت فيما مضى بين النقاد قضية ذكورية وأنثوية الشعر فقال أغلبهم :"لا ذكورة ولا أنوثة في الشعر "مما وضع الطرفين في خط شروع واحد في كتابة النص الشعري . ويكفي أن نضع نازك الملائكة في سباق مع السياب حول مسألة الريادة في كتابة الشعر الحر ، في العراق والوطن العربي ، وهذه مرحلة مهمة شكلت أنطلاقة حقيقية للصوت الشعري النسوي المعاصر ، و (تجذير البعد الأنثوي للقصيدة بخصائصها اللغوية ومُقوِّماتها البلاغية والفنّية) .

وسئل الشاعر"جرير" ذات مرة عن أشعر الناس فأجاب : أنا لولا هذه الشاعرة ، يعني "الخنساء"وأستشهد بقولها : "إنَّ الزمان وما يَفْنَى لهُ عجبٌ أبقى لنا ذَنَبًا،واستُؤصِل الرَّاسُ أبقى لنا كلَّ مجهولٍ؛ وفجَّعَنَا بالأكرمينَ، فَهُمْ هامٌ؛ وإرْمَاسُ إنَّ الْجَدِيْدَيْنِ في طُولِ اختلافِهِمَا لا يفسدان، ولكنْ يفسدُ الناس ُ." مما يعطى قول جرير أعترافاً بشاعرية المرأة قبل شاعرية الخنساء . فجاءت أجابته هذه لتؤكد أن المرأة تمتلك من الموهبة والإمكانية ما يجعلها قادرة على الإبداع والتميز، والتعبير عما يجول بخاطرها ، حيث أستطاعت أن تعبر من خلال شعرها عن قضاياها وهمومها وأحزانها .
نحن نعرف جيداً ، أن طبيعة المرأة وطبيعة الرجل مختلفة في تكوينهما الفسيولوجي والسايكولوجي ، كذلك هما مختلفان في بنيويتهما العاطفية ، فالأنثى أكثر رقة وأشد عاطفة من الرجل مما ينعكس ذلك على شاعريتهما ، فالمرأة تغوص أكثر في نسج التراكيب اللفظية وصناعة الصورة الشعرية ، فهي قادرة على إيجاد أبعاد دلالية ذات مضامين عميقة في النص الشعري ، قد لايصل اليها الرجل الشاعر .
يذكر أن أول أثر شعري أنثوي مدون ، يعود لأمرأة وهي السومرية (أنخيدوانا) أبنة الملك سرجون الأكدي ، عدها العلماء الآثاريون أول شخصية نسائية أدبية كاتبة وشاعرة في تاريخ البشرية في الألف الثالث قبل الميلاد . سبقت في كتابتها ، ملحمة كلكامش بـ (800) سنة ، ولذلك يصفها الناقد الدكتور "وليم هالو" بـ "شكسبير الأدب السومري". وشواعر العراق هن أمتداد للشاعرة السومرية (أنخيدوانا) .
"
ميادة المبارك" شاعرة نصوصها تستهوي القارئ ، فتعطي مؤشرات شعرية رائعة ، تحرك به الذائقة الشعرية . هناك تأملات نقدية في كيفية التسلل الى عالمها الشعري ، الكثيف بالصور والرموز والدلالات ، وهي دعوة أتركها للأخرين من النقاد . فنصوصها تمتاز بلغة خاصة ، وسمة فنية رائعة ، تمكنها من خلق الصورة الشعرية التي تميزت بصناعتها خاصة حين تحيطها بأطار لغوي جميل ،فتقدم العبارة الشعرية على أنها تشكيل بنيوي . فأستطاعت توظيف الكلمة في محلها لكي تجعلها في أبهى صورها الشعرية بأستخدام مفردات بسيطة متزنة مرنة وسلسة تنساب في جريانها الى العقل والقلب معاً .
الشاعرة "ميادة المبارك" ، ذات ذوق وإحساس وعواطف ، تتفاعل مع أحاسيسها ومشاعرها في عالم شعري أنثوي مختلف ، عبرت به عن همومها الذاتية ورغباتها ، من أجل أن تعيش تجاربها وأحلامها وأحزانها وواقعها ، فهي تمتلك وعياً شعرياً ناضجاً من حيث الإبداع ، تبحث من خلاله عن تكوين شخصيتها الشعرية الخاصة بها ، فتكتب الشعر برهافة الحس وأبتداع الصورة والمقدرة على نحتها . ففي نصوصها الشعرية ، اللغة الشعرية واضحة تتسم بصفاء المفردة ، فهي لا تلجأ إلى أسلوب الغموض الملغز ، الذي يلجأ إليه البعض في الكتابة ، بوعي أو دون وعي من أجل أبهار القارئ بما يمتلكه - الشاعر- من مقدرة على الغوص في متاهات اللغة المبهمة وكأن الغموض هي صفة للتميز وأثارت أندهاش المتلقي .
النص الشعري للشاعرة "ميادة المبارك" يستدعي الغوص في ثناياه وفهم مغزاه ووضع التأويل المناسب له ، والتمعن بمعانيه وموسيقاه الشعرية ، فالبناء الفني لنصوصها شكل وحدة واحدة متكاملة ، في ربط النسيج الشعري في النص بالبنية اللغوية المكثفة له . فاللفظ فيه كون صورة في السياق اللغوي ، تنطق بكل المعاني والدلالات ، عبر الكشف عن التناقضات النفسية والانفعالات العاطفية ، بما يجول في ثنايا الشاعرة ، فتمارس وعيها الأنثوي بشفافية ، في الكشف عن الوقائع والأشياء التي تتعلق بمرتكزات عوالمها ، فهي حين تكتب تخفي وراء نصوصها إحساساً معيناً يستحوذ على مخيلتها ، ينعكس على تجربتها ورؤيتها لمحيطها ، تترجمه كأبداع شعري ، متناغم مع مسيرة الحداثة ، ولعل أستخدامها لميزة الأنوثة الشعرية في نصوصها يعطي لها مجالات متعددة للغوص في مرجعياتها العاطفية والنفسية التي تلقي بظلالها عما تجود به النفس ، أننا أمام شاعرة تمتاز بروح إبداعية ، نتيجة الى ما تمتلكه من القدرة على الصياغة الشعرية ، فهي تقبض على الجمالية الشعرية ، وتصور الأشياء كما تراها، فتجعلنا نتحسس حضورها الشعري في القصيدة ، فتندفع بنحت لغة تتظافر فيها المفردة والجملة الشعرية ، كذلك نلاحظ في ومضاتها الشعرية حين تكتبها ، تراكيب ومفردات مكثفة تختزل الكثير من المعاني ، غنية المعنى ، تستند إلى مخيلة واسعة ، تصاغ بدلالات عميقة رائعة تكون في غاية الكثافة وعمق الأيجاز .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق