قرناء السوء
كيف يمكن للتيه إلا أن يكون هكذا؟ سراديب ضيقة حالكة الظلّام، نلهث
فيها باحثين عن شق دقيق، تنزلق عبره شعرة شيب تسقط من جديلة الشمس، أو شال القمر؟
إن كان التيه هكذا، فهناك أمل يختبئ وراء كل درب مسدود، متوارياً يضحك من تخبطنا، يتلذّذ بمرآنا نرتطم بجدران صلبة تصارعنا وتنتصر... نعم تنتصر لأنها أدركت قواعد اللعبة التي جهلناها، والحيطان لا تناطح إلا الثيران الهائجة...
أما إن كان التيه فراغاً من سواد فقط دون جدر مشروخة، فتلك طامة كبرى ...
إن كان التيه هكذا، فهناك أمل يختبئ وراء كل درب مسدود، متوارياً يضحك من تخبطنا، يتلذّذ بمرآنا نرتطم بجدران صلبة تصارعنا وتنتصر... نعم تنتصر لأنها أدركت قواعد اللعبة التي جهلناها، والحيطان لا تناطح إلا الثيران الهائجة...
أما إن كان التيه فراغاً من سواد فقط دون جدر مشروخة، فتلك طامة كبرى ...
من داخل تلك العتمة،
تخرج روحها لتبصر نوراً أبيضاً تحجبه عشرات الخيالات التي تزاحمت، أبعدتهم قليلاً،
حتى استقرّت فوقهم تنظر إلى ذلك الجسد المسجّى على سرير مفرشه أخضر بلون الكفن،
-" لم يحن الأجل بعد يا سجني، ولي معك بقية عمر وشقاء، لكن دعني أتأمّلك هنيهة، تلك متعة لا يعرفها إلا المعتقل الذي غادر سجنه، ليرى ضوء الشمس منهمراً بغزارة على أسواره الخارجية".
هكذا تحدّثتْ الرُّوحُ، قبل أن تعاود الدخول بأمر ربها إلى ذلك الجسد، الذي انتفض نفضات متتالية، قبل أن يفتح عيناً واحدة، لسعها لهيب الضوء فأغمضتها ثانية، لكنّ صفعات قليلة على وجهها جعلتها تعاود المحاولة بتأنٍ وممانعة ، وأمام محاولاتهم العنيدة فتحت عينيها الاثنتين بالكامل، وتحشرجت أحرف مبعثرة في عمق حنجرتها، تغالب الاختناق، لتنطلق عبر أسوار فمها :
-" أين أنا ؟".
-" لم يحن الأجل بعد يا سجني، ولي معك بقية عمر وشقاء، لكن دعني أتأمّلك هنيهة، تلك متعة لا يعرفها إلا المعتقل الذي غادر سجنه، ليرى ضوء الشمس منهمراً بغزارة على أسواره الخارجية".
هكذا تحدّثتْ الرُّوحُ، قبل أن تعاود الدخول بأمر ربها إلى ذلك الجسد، الذي انتفض نفضات متتالية، قبل أن يفتح عيناً واحدة، لسعها لهيب الضوء فأغمضتها ثانية، لكنّ صفعات قليلة على وجهها جعلتها تعاود المحاولة بتأنٍ وممانعة ، وأمام محاولاتهم العنيدة فتحت عينيها الاثنتين بالكامل، وتحشرجت أحرف مبعثرة في عمق حنجرتها، تغالب الاختناق، لتنطلق عبر أسوار فمها :
-" أين أنا ؟".
تأتيها أصوات كثيرة، لا تصلها إلا كهمهمات مخيفة في كهف عتيق، وصوت يعلو، يطلب من الجميع السكوت، يقترب من أذنها ويهمس:
-" لا تخافي، أنت بخير، أنت في المشفى، وقد أنقذناك بعون الله من غرق مُقدَّر".
صمت قليلاً ثم استأنف متسائلاً :" أنا دكتور أحمد، ما الذي اضطّركم إلى الإبحار في هذا الجو العاصف؟".
وكأن سؤاله سوط هوى على ظهر ذاكرتها الغائبة، فانتفضت وانتفض معها جسدها الخريفي الناحل، لكن يديّ الطبيب ثبّتته طالباً منها الهدوء ، هو نفس السؤال الذي انطلق من فم ابنتها باستنكار وخوف:
-" أمّي، ما الذي يضطرّنا لزيارة خالتي في مثل هذا الجو العاصف؟ وهل تتوقعين أن نجد مركباً يقلّنا إلى الجزيرة حيث تسكن ؟".
وهنا صرخت ملتاعة :
-" أين ابنتي؟".
عاجلها الطبيب بالإجابة :
-" اهدئي، هي في الغرفة المجاورة، ستكون بخير، فقط اهدئي، سأذهب لأرى ما آل إليه وضعها وأعود لأطمئنك عليها، فقط ابقي هادئة ".
وأشار إلى ممرضتين طالباً منهما البقاء للاعتناء بها .
غابت المرأة في أرجوحة المركب، الذي اضطرت -سراً -إلى إغراء صاحبه بمبلغ كبير، حتى رضخ لرغبتها في نقلها مع ابنتها الشابة إلى الجزيرة المقابلة، رغم أن هيئة الأرصاد كانت قد حذّرت من رداءة الطقس، لكن هذا الجو بالذات هو ما كانت تنتظره طويلاً، بحر هائج متلاطم الأمواج أهوج، لا يجرؤ على خوض غماره إلا أمّاً أرادت أن تخرج القرين القابع في جسد ابنتها...!
هذا ما قاله لها الشيخ حسن، الذي لجأت إليه بعد أن ضاق صدرها من شكوى زوج ابنتها، يريد أن يصبح أباً، وقد مضى على زواجه بابنتها حوالي السنتين ولم تحمل...!
حاولت أن ترافق ابنتها إلى طبيب مختص، لكن الابنة كانت تتهرّب بحجج كثيرة، تخبرها أنها تراجع طبيبها الخاص بمرافقة زوجها.
و زوج ابنتها يأتيها خفية، ليهدّد ويتوعّد بأنه سيتزوّج بأخرى ، فقد ضاق ذرعاً بهذا الوضع، ولن يطيق الصّبر طويلاً ...!
اقترحت عليها إحدى الجارات الذهاب إلى الشيخ حسن، واحتارت هي، إذ كيف لها أن تقنع ابنتها المتعلّمة، و التي ترفض حتى الذهاب معها إلى طبيب، فكيف ستقبل أن ترافقها إلى من حقيقته دجّال ؟!
كان الجواب أن لا مشكلة، الشيخ حسن يمكنه التشخيص غيابياً، فهو يطلب من الأسياد أن يرسلوا العفاريت ليرصدوا القرين الساكن فيها، وبناء على ذلك يصف العلاج ...!
و أخبرَها الشيخ حسن أن ابنتها يتلبّسها عفريت، يحول بين رحمها والحمل، لا مجال لإخراجه منها إلى بعبور بحر هائج متلاطم الأمواج، في يوم ماطر عاصف جدّاً، سيخشاه العفريت ويولّي من جسدها هارباً ...!
تذرّعت الأمّ أن أختها المقيمة في الجزيرة المقابلة مريضة جدّاً، وأنها تطلبهما لأمر هام لا يقبل التأجيل ...!
-" هل تدرك خالتي حجم المخاطرة التي نحن مقدمون عليها ؟ أمّي أنا خائفة جدّا، حتى (المراكبي) خاف عندما طلبتِ منه الإبحار، وهذا قارب ، لا أدري أمّي، أشعر أنه قارب صيد، لا قارب نقل ركاب ".
تنظر الأمّ إليها نظرة حنوّ و إشفاق، كيف لمثل هذه الشابة المؤمنة الصالحة المتديّنة أن يسكنها عفريت ؟ هي زينتها الوحيدة التي منّ الله بها عليها في الدنيا، ثمرة زواج انتهى سريعاً بموت الأب وهي في عمر الجهّال، كبّرتها مع الصلاح والتقوى والعلم والأدب ، حتى جاء من ارتأته مناسباً لقرة عينها، فأرسلتها إلى داره.
استفاقت الأمّ من شرودها، ردّت عليها بسرعة تحتضنها :
" لا تخافي، هذه (النوّة ) ستنتهي سريعاً، خلال دقائق سنصل إلى الجزيرة بأمان، هذا (المراكبي ) صياد ماهر معروف، وهو أدرى بأحوال البحر، ويعرف كيف يتصرّف ، لذا لا تخافي، تعالي سنتسلّى بالحديث حتى لا نشعر بطول الوقت، هل أنت على خلاف مع زوجك ".
تنظر الشابة إلى أمّها متشككة :
" لا ، نحن بخير حال، لماذا تسألين هذا السؤال أمّي ؟ ".
تشرد الأمّ وبنبرة حائرة تقول :
-" زوجك يتردّد عليّ منذ فترة، يشتكي من تمنّعك عليه، يقول أن أمر الإنجاب لا يعنيك ، بينما هو يتحرّق شوقاً ليحضن طفله ".
يتغيّر تشكيل وجه الشابة ليغدو علامة تعجّب كبيرة ، سرعان ما حاولت محوها، ردّت بهدوء:
-" نعم أمّي هذا حقه، وبإذن الله يتحقق حلمه، لا تقلقي، لكن كله بأمر الله ".
تقاطعها الأمّ :
-" لكنه يهدّد بالزواج بثانية، بنيّتي، يقول أن المانع منك، وأن فحولته كاملة، لكن أنت ....".
وفِي تلك اللحظة مال المركب ميلة كبيرة ، لم يستطع المراكبي أن يسيطر على الدفّة ، فاختل التوازن لتأتي الريح كأم غاضبة تصفع وجه ابنها (البحر )الذي تلفّظ بلفظة بذيئة ، فتكوّر بموجة كبيرة ، انسحبت إلى الأسفل تجرّ معها المركب، ثم تدحرجت متضخّمة حتى تعملقت، فتحت فماً كبيراً ابتلع المركب بمن عليه ...
كان آخر ما تناهى إلى سمع الأمّ صوت ابنتها يتردد مع زعيق الريح الغاضبة وبكاء البحر الحانق :
-" أمّاه، أنا ما زلت عذرااااااء ".
وصوت الطبيب الذي دخل توّاً :
-" البقية بحياتك، لم نتمكّن من إنقاذها".
د. عبير خالد يحيي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق